من يسمع خطاب جبران باسيل بالأمس، لا يمكن أن يفوته الانتباه إلى رشاقة الرجل في القفز بين دورين: دور السياسي المنخرط في السلطة منذ أكثر من 15 سنة، ودور المعارض الذي يشكو واقع السلطة وأداءها ويعطي الأفكار البديلة.
وبين الدورين يلعب باسيل لعبته المعتاده، تارةً يستعرض نفوذه ودوره بوصفه الزعيم القوي القادر على تحقيق الإنجازات، وتارةً بتقمّص دور المعارض فيتملّص من فشل السلطة ويوجّه لها المساءلة والإنتقادات.
فمن موقع المعارض والمحتج، حاول باسيل مقاربة ملف الفيول المغشوش، ملقياً بالمسؤوليّة على مجلس الوزراء الذي لم يقرّ إجراء مناقصة جديدة في كلّ مرّة كان ينتهي العقد مع “سوناطرك”، بل يُجدّده. لكن في الواقع، يمكن القول إنّ هذه الفضيحة تنطوي على ما هو أبعد بكثير من الفشل في إجراء المناقصات، كما تنطوي على مسؤوليّة كبيرة يتحمّلها وزراؤه بالدرجة الأولى.
فنحن نتحدّث هنا عن عقد جرى توقيعه منذ عشرين سنة، ظلّت بنوده طوال هذه المدّة طي الكتمان دون أن يُنشر في أي من المرّات التي جُدد فيها.
وفي النهاية، اكتشف الجميع أنّ العقد لم يكن موقّعاً “من دولة إلى دولة” من خلال شركة “سوناطرك”، بل مع شركة مسجّلة في “جزر العذراء البريطانيّة”، وهي شركة مملوكة من سوناطرك وتمثّل واجهة لرجال أعمال جزائريين متورّطين بقضايا فساد وتبيض أموال حول العالم.
ثم تبيّن أنّ الشركة الموقّعة مع لبنان على العقد لم تكن سوى واجهة قام من خلالها بعض رجال الأعمال النافذين بتزويد لبنان بالنفط بالنيابة عن الشركة الموقّعة.
منذ 2008، تعاقب الوزراء العونيون على وزارة الطاقة والمياه، وطوال تلك السنوات أشرف هؤلاء الوزراء على تنفيذ العقد وتجديده دون أي إعتراض.
وفي النهاية، لم تنكشف كل هذه الإشكاليّات المحيطة بالعقد إلا بعد انكشاف عمليات الغش والتزوير، وإحالة الملف إلى القضاء.
مع العلم أنّ إثارة القضيّة على المستوى القضائي لم تتم إلا بعد فضح التزوير نتيجة رفض الشركات المتعهّدة بتشغيل المحرّكات العكسيّة وبواخر الكهرباء شحنات فيول عديدة.
وهذا ما دفع التيار إلى تقديم الإخبار لدى مدّعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون، لاستباق الموضوع والتأكّد من رمي الكرة في ملعب قاضية موثوقة من قبلهم.
في الواقع لا يمكن أن يفوتنا هنا أنّ وزراء التيار كانوا على دراية بوجود إشكاليّات تتعلّق بنوعيّة الفيول المستخدم منذ عام 2013، حين أدّت رداءة الفيول إلى تعطيل مولّدات الكهرباء العائمة على الباخرة فاطمة غول.
وطيلة ثلاث سنوات كانت وزارة الطاقة تتلقّى عشرات الرسائل من الشركة المتعهدة بتشغيل المولدات العكسيّة، دون أن تبادر الوزيرة إلى اتّخاذ أيّ إجراء. وفي النهاية، لم يتحرّك التيار على النحو الذي أشرنا إليه الا بعد أن انكشفت المسألة بشكل فاضح أمام الرأي العام.
ودائماً كما لو أنّه معارض وخارج السلطة، يعود باسيل مجدداً في مؤتمره الصحافي الأخير إلى لعب دور الاحتجاج على عدم كشف هويّة أصحاب التحويلات المالية إلى خارج لبنان عام 2019، متحدثاً عن مشروع قانون لاستعادة هذه الأموال من الخارج.
في الواقع، يمكن القول إنّ مشروع القانون الذي يتحدّث عنه باسيل لا يمثّل سوى خطوة استعراضيّة غير واقعيّة، خصوصاً أنّه يتنافى مع أبسط آليّات عمل أسواق المال الدوليّة.
فعمليّاً، لا تملك الدولة أي مسوّغ قانوني لتطلب من دول أجنبيّة استرداد أموال كهذه، خصوصاً أنّ التحويلات تمت دون أن تكون قد صدرت أي ضوابط أو قيود قانونيّة على هذا النوع من العمليّات.
أمّا في موضوع الاستنسابيّة في التعامل مع العملاء، فهذه مسألة يُفترض أن تتحمّل مسؤوليتها المصارف نفسها، لا أصحاب الأموال التي جرى تحويلها.
في كل الحالات، يتناسى باسيل هنا أنّ ثمّة مسؤوليّة سياسيّة تقع على تيّاره في ما يخص هذه القضيّة. فأزمة عجز ميزان المدفوعات وتسارع التحويلات إلى الخارج بدأت منذ سنوات عديدة، وطوال هذه السنوات لم يبادر تيّاره – كما لم يبادر أي حزب آخر – إلى طرح أيّ مقاربة أو معالجة للموضوع غير تلك التي كان يعمل عليها المصرف المركزي.
وحتّى حين بادر المصرف المركزي إلى محاولة معالجة الموضوع بأسلوب الهندسات الماليّة سنة 2016، لم يبدِ أيّ من الأطراف المشاركين في السلطة اعتراضاً علنياً على هذا النوع من المعالجات.
ومن موقع التملّص من المسؤوليّة نفسه، يسأل باسيل عن تقصير الدولة في ملف التهريب والمعابر غير الشرعيّة، معتبراً أن حجّة عدم القدرة على ضبط المعابر يسوّقها من هو متواطىء فيها من أجهزة أمنية وقوى أمر واقع، ومشدداً على أن الأجهزة القضائيّة تعرف ذلك ولا تقوم بعملها.
ثمّ ينتقل كمعترض إلى الحديث عن أفكار بديلة لمعالجة مسألة تهريب المازوت.
ثمّة مفارقة كبيرة هنا، فملف المعابر غير الشرعيّة يكتسب أهميّته منذ سنوات من ارتباطه بمسألة تهريب المازوت المدعوم من مصرف لبنان، مع ما يعنيه ذلك من أثر على الوضع النقدي في البلاد. والمعترض، أي باسيل، ليس سوى رئيس التيّار الممسك منذ 2008 بوزارة الطاقة والمياه، المسؤولة عن المديريّة العامّة للنفط ومنشآت النفط التي تقوم باستيراد وتوزيع المحروقات.
وعمليّاً، كان من المفترض أن تكون الوزارة أوّل من يلتفت ويدق ناقوس الخطر إزاء هذه الظاهرة، كونها الجهة التي تملك المعطيات الكاملة حول حجم الواردات السنويّة من المحروقات، وتحديداً المازوت، وحجم الزيادات السنويّة في هذه الواردات بسبب عمليّات التهريب.
كما تملك هذه الوزارة، وبالتحديد منشآت النفط، المعلومات الكاملة حول الشركات التي تشتري المازوت، والتغيّرات، أي الزيادات، في حجم مشتريات هذه الشركات بعد تفشّي ظاهرة التهريب.
في موضوع خطّة الإصلاح الحكومي، أبدى باسيل إيجابيّة شكليّة اتجاه الخطّة، من خلال الحديث عن جرأتها في تقدير الخسائر والفجوات في النظام المالي، وحديثها عن ضرورة إعادة هيكلة الدين العام وكسر دوّامة الاستدانة بالفوائد العاليّة.
لكن في المضمون، بدا واضحاً أن باسيل بات يتجه إلى رفض ركيزة أساسيّة من ركائز الخطّة المطروحة، وهي تحميل جزء من الخسارة الواقعة إلى رساميل المصارف التجاريّة.
وفي هذه النقطة، يكون باسيل قد اتّجه في هذه المسألة للاقتراب من موقف حاكم مصرف لبنان وجمعيّة المصارف، رغم أن التيّار وقف بوضوح إلى جانب رئيس الحكومة في المرحلة السابقة بمواجهة حاكم المصرف المركزي.