امرأة كانت تحمل ابنها وتتوجّه لشراء بعض الحاجات، الضرورية جداً جداً، لتطبخ لأطفالها الثلاثة ما يسدّ جوعهم. الوالد يدور من ناحية إلى أخرى، يبحث عن عمل يومي يعود بعده ببضعة آلاف من الليرات، لئلا تجوع الأفواه الثلاثة، أكبرهم محمد، وعمره 3 سنوات، وثانيهم جابر وعمره 18 شهراً، وأصغرهم وجيه، عمره 9 أشهر، كان في حضن والدته.
تمشي ورود. تقطع المسافة المتبقّية، بين لحظاتها الأخيرة، وبين مشهد إعدامها. تسمع إطلاق رصاص. تخفض رأسها قليلاً، كما يبيّن الفيديو، في حركة تلقائية. وتمشي ثلاث خطوات إضافية. ثم قبل أن تخطو الخطوة الرابعة، تسقط أرضاً.
صوّرتها كاميرا الصدفة، من تلك الكاميرات التي باتت في كلّ مكان، وترصد حوادث كان من المستحيل تصويرها قبل 10 سنوات.
تتلقّى ورود رصاصة، أردتها على الفور. تسقط بهدوء، دون مبالغة. كما لو أنّها تضع طفلها برفق، للمرّة الأخيرة، على “سرير” الحياة. سقطت ورود بلطف، في لحظاتها الأخيرة، كانت تحاذر أن تؤذي طفلها. بيدها الثانية تحمل الأغراض، بعض الحاجات التي كانت ستضعها في أفواه أولادها الجائعين، في البيت، ينتظرون أمّهم التي لن تعود.
لكن حين سقطت، تظهر الكاميرا أنّها نظرت إلى طفلها للمرة الأخيرة، كما يبيّن الفيديو، نظرات أخيرة، ثم أفلتتها، بعدما اطمأنّت إلى أنّ وجيه بخير. وأسلمت الروح، ليبقى وجيه وحده، أمام جثّة والدته، يبكي، بانتظار النجدة.
ولا نجدة.
قُتلت ورود. قتلتها رصاصات تجّار مخدّرات، كما يقول الخبر. كانت عابرة سبيل، لا علاقة لها بأيّ من الحروب التي تدور من حولها. حربها الوحيدة كانت قوت ثلاثة صبيان. هي وزوجها، المفلسان، والعاطلان عن العمل تقريباً، والمنتقلان، عنوةً، من السكن في طرابلس إلى السكن في مخيم شاتيلا البيروتي، حيث أجرة المنزل أقلّ، واحتمال الموت أعلى.
في المقلب الآخر من البلاد، كان هناك فتاة اسمها نداء. تسبح في نهر على طرف بلدة عربصاليم، هي وكلبها، وحدها، دون أن تزعج أحداً، ودون مرافقة، لا من رجل ولا من امرأة. في اليوم التالي، استفاقت لتجد أنّ الذباب الإلكتروني وجراداً إلكترونياً استباح صورتها، من دون وجه حقّ، وصفحات تهاجمها باعتبارها أهانت “دماء الشهداء” بأن سبحت، بالمايوه، في نهر حيث عبر يوماً أو أياماً أو لسنوات، مقاتلون وهم في طريقهم لمحاربة إسرائيل.
ردّت نداء بأن سألت على فيسبوك: “ليش الحاج كتير انهار بس شاف الصورة؟”. وسألت: “شو خصّ دماء المجاهدين ودينك ومعتقدك يا حاج؟ ما كون عم بسبح عندك عالبرندا ومش عارفي!!”.
هو السلاح، وحكاية الاعتداء الدائم على “الأهل” و”الأخوة”
الحادثتان تفصل بينهما ساعات قليلة. يجمعهما الكثير. ورود كنجو ونداء حمزة متشابهتان جدّاً. الأولى قُتِلَت واستُبيح دمها وأُهدر دون سؤالها عن رأيها في أيّ موضوع. قتلها أحدهم لأنّها كانت في طريق رصاصاته المتحرّرة من أيّ رقابة أو عدالة أو قضاء أو أمن.
والثانية استباح حرمة خصوصيتها، وأهدر دم حريّتها الشخصية، رجلٌ قرّر أنّها لا تحترم “ديننا ومعتقدنا”، وآخرون رأوا أنّها أهانت “دماء الشهداء”. وطبعاً حجّتهم الأقوى أنّهم يحملون السلاح، ذاك الذي يقولون إنّه “حرّر” هذه الأرض.
لكن للتذكير، ولسوء حظّ “الحاج”، أنّ عربصاليم لم تكن محتلّة قبل العام 2000، بل هي تحرّرت في العام 1985، أي أن لا فضل لحزب الله في تحريرها. الأصحّ أنّها شهدت حرب إراقة دماء الأخوة في حزب الله وحركة أمل في حربهم الداخلية الشهيرة، ولم تشهد إراقة دماء الإسرائيليين المحتلّين.
دماء هنا ودما هناك. ودائماً بين “الأخوة”. سلاح متفلّت من “العدالة” في مخيم شاتيلا. وسلاح متفلّت من “الحريّات الشخصية” في عربصاليم وعلى نهر الخرخارة. امرأة لا حول لها ولا قوّة، سقطت مضرّجة بفقرها، لكن الفتاة وقفت واعترضت، وإن على فيسبوك، على استباحة صورتها وتناقلها.
هو السلاح، وحكاية الاعتداء الدائم على “الأهل” و”الأخوة”.
وهي ساعاتٌ قليلة تفصل بين صورتين، ورود، ونداء.
هناك من قطف الأولى بوحشية، وهناك من عليه أن يسمع نداء الثانية.