كم ينطبق المثل القائل إنّ المكتوب يُقرأ من عنوانه على “الحوار الوطني” المزمع عقده في قصر بعبدا في 25 حزيران الحالي. كيف لا، وقد تطلّب كلّ هذه الجهود ولا يزال إقناع بعض المدعوّين إليه بالحضور؟ فالحوار كمبدأ هو أصل السياسة ومآلها.
ولذا، فإنّ رفضه من أيّ جهة في ظروف سياسية “طبيعية” مستغربٌ. لكن هذه ليست حال حوار بعبدا المرتقب، لأنّ، بكلّ بساطة، الحياة السياسية الآن ليست “طبيعية”.
والحال يفتقر “حوار بعبدا” المرتقب إلى سياق سياسي داخلي “يحضنه”، ويسبغ عليه صفة الضرورة لا العجلة وحسب. هذا بخلاف “مؤتمر الحوار الوطني” ما بين آذار وحزيران عام 2006 وبخلاف “هيئة الحوار الوطني” ما بين أيلول 2008 وآذار 2014.
وإن كان ممكناً الاستدلال إلى بعض قليل من أوجه الشبه بين الظروف الإقليمية والدولية عام 2006 وتلك السائدة اليوم، خصوصاً لناحية ارتدادات الصراع في المنطقة على لبنان.
وقتذاك كان النظام السوري، صاحب النفوذ السياسي والأمني في لبنان، يواجه ضغوطاً فرنسية وأميركية تصلّبت أكثر بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري. أمّا الآن، فإنّ حزب الله حليف إيران يواجه تبعات استراتيجية “الضغوط القصوى” عليها، وآخر فصولها قانون “قيصر”.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل فرض الحوار الرئاسي المرتقب نفسه أم أنّه فُرض فرضاً على اللعبة السياسية؟
وبالعودة إلى تلك المرحلة بين 2004- 2006، فإنّ “عشاء النورمندي” بين الرئيسين الفرنسي جاك شيراك والأميركي جورج بوش الإبن أوائل حزيران 2004، كان قد أطلق دينامية جديدة من الضغط الديبلوماسي على النظام السوري توجّت بالقرار 1559 في 2 أيلول 2004 عقب التمديد لإميل لحود. بالموازاة، كانت قد انطلقت في لبنان دينامية سياسيّة ضدّ “الوجود السوري” أطلقها نداء المطارنة الموارنة في آب عام 2000، ولاقاها وليد جنبلاط بوتائر مختلفة، ثمّ رفيق الحريري قبل أشهر من اغتياله. هذا الاغتيال الذي حفّز المعارضة الشعبية والسياسية ضدّ “نظام الوصاية” وحلفائه اللبنانيين، وصولاً إلى تظاهرة 14 آذار 2005، ثمّ انسحاب “الجيش الأسدي” من لبنان في نيسان، والذي أعقبه فوز قوى المعارضة في الانتخابات النيابية في أيار من العام نفسه.
بالتالي وبموازاة الضغط/ الاهتمام الدولي بلبنان، كان هناك انقسام حقيقي آخذ بالتجّذر في الداخل اللبناني بين سرديتين سياسيتين متقابلتين، ما أضفى “شرعيّة” على “الحوار الوطني” الذي دعا إليه الرئيس نبيه برّي في كانون الأول 2005، وكان قد هيّأ له بجولة عربية واتصالات مع سفراء الدول الغربية، “حتّى فرض الحوار نفسه بالنتيجة”، كما قال برّي وقتذاك.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل فرض الحوار الرئاسي المرتقب نفسه أم أنّه فُرض فرضاً على اللعبة السياسية؟
كلّ المؤشرات تؤكدّ أنّ الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى الواقع، وذلك لأنّ العاملين الخارجي والداخلي (خصوصاً) اللذين شكّلا وعاءً مناسباً لحوار العام 2006، مفقودان اليوم. فالفرق بين الحوارين هذين لا يقتصر على شخصية وتاريخ كلٍّ من نبيه برّي والرئيس ميشال عون، وإلا لما كان رئيس “أمل” هو “حجر الزاوية” في حوار 25 الجاري. إنمّا الفرق الأساسي بينهما أنّ الحياة السياسية في لبنان باتت منذ التسوية الرئاسية في العام 2016، وبخلاف عامي 2005/2006، مشلولة ومنعدمة التوازن، بعدما استطاع “حزب الله” أن يشكّل سلطة حليفة له وأن يرسم سقوفاً واضحة للعبة السياسية قوامها سحب سلاحه من التداول. بينما كانت المعادلة السياسية في 2005/2006 واضحة: الزخم الشعبي لـ “14 آذار” والذي ترجم في الانتخابات النيابية فضلاً عن الدعم العربي والدولي لـ “انتفاضة الاستقلال”، مقابل “سلاح المقاومة”.
والحال فقد فرضت هذه المعادلة المعمّدة بالدم جدول أعمال محدّداً و”ضخماً” لـ”حوار عين التينة” قوامه توسيع صلاحيات لجنة التحقيق الدولية، المحكمة الدولية، موضوع القرار 1559 ومتفرّعاته، وموضوع العلاقات اللبنانية – السورية ومتفرّعاته. أي أنّ جدول الأعمال هذا جاء يعكس حقيقة الانقسام السياسي في البلد، ما أدّى إلى تمخّض الحوار وقتذاك عن نتائج ملموسة سرعان ما سعى “حزب الله” للإطاحة بها منذ حرب تمّوز 2006 بهدف قلب التوازنات الداخلية التي أرستها “طاولة عين التنية” خصوصاً أنها وضعت للمرة الأولى “سلاح المقاومة” قيد النقاش السياسي.
العهد وحكومته ومن ورائهما “حزب الله” دأبا منذ اندلاع الأزمة على رمي المسؤولية عنها على “الحريرية السياسية”
أمّا حوار 25 حزيران فلا جدول أعمال محدّداً له. وهذا يعكس بالدرجة الأولى الاختلال في موازين القوى بين أطرافه بعدما طوّع “حزب الله” الحياة السياسية بأدواته المعروفة مستفيداً من تواطؤ القوى السياسية. فبعد أن كان هدف “الحوار الوطني” بعد 2011 تحييد لبنان عن صراعات المنطقة، بات هدفه الآن تحييد سلاح “حزب الله” ووضعه خارج التداول السياسي. ذلك على الرغم من كون هذا السلاح لا يزال عنواناً رئيسياً للانقسام الأهلي في لبنان، والسبب الرئيسي “الحصار المالي” المفروض عليه.
هذا يجعل المعيار السياسي الرئيسي لتقييم التموضع السياسي لـ”المعارضة”، خصوصاً السنيّة إزاء حوار بعبدا، هو مقدار ضغطها لوضع سلاح “حزب الله” على جدول أعماله كشرط للمشاركة فيه. وإلّا فإنّ الحوار الرئاسي المرتقب لن يكون في محصّلته سوى دليل جديد وفاقع على اختلال الحياة السياسية وشللها المتماديين، خصوصاً أنّ الانقسام الحقيقي والثابت اليوم هو بين السلطة و”الحراك الثوري” وبين الأخير أو بعضه و”حزب الله”. بينما انقسامات القوى السياسية متحرّكة ومتأرجحة تحت السقف السياسي المحدّد من جانب “حزب الله”. والمفارقة أنّ الانقسام الأكثر وضوحاً بين هذه القوى هو حول العهد راعي الحوار!
والحال ليس بلوغ الأزمة المالية والاقتصادية حدوداً بالغة الخطورة معياراً كافياً لإضفاء “الشرعية” على “حوار بعبدا”، ما دام تفاقمها بحدّ ذاته إدانة للسلطة السياسيّة الحالية التي فشلت فشلاً ذريعاً في تداركه. وبالرغم من ذلك، فقد خرج الرئيس حسان دياب يقول للبنانيين إنّه حقّق 97 في المئة من برنامج حكومته!
فوق ذلك، فإنّ العهد وحكومته ومن ورائهما “حزب الله” دأبا منذ اندلاع الأزمة على رمي المسؤولية عنها على “الحريرية السياسية”. وهو اتّهام سياسيّ، خصوصاً أنّ مطلقيه ما تركوا السلطة منذ 15 عاماً. وهذا ما يحيل إلى سؤال بديهي: ما داعي الحوار إذا كان راعيه وحزبه وحلفاؤه الأقربون يحمّلون مسبقاً مسؤولية الأزمة التي استدعته (الحوار) إلى فريق بعينه؟ ثمّ ما هو موقف ممثلّي “الحريرية السياسية” المفترضين في الحوار، أي رؤساء الحكومة السابقين تمام سلام وسعد الحريري وفؤاد السنيورة؟ هل يضغطون لفرض جدول أعمال سياسي يشمل سلاح “حزب الله” كردّ سياسي على اتهامهم ولاستنهاض الحياة السياسية؟
الجواب هو منتصف الطلريق كما هي العادة لديهم. دون أن يعترفوا بأن الطريق مسدود.