بعد الإنجيل المقدس ألقى عظة قال فيها: “سمعنا في إنجيل اليوم عن تواضع إنسان مسؤول، ليته موجود لدى جميع المسؤولين. قائد المئة هو ضابط في الجيش الروماني، تحت إمرته مئة عسكري، يتقاضى دخلا جيدا ولديه سلطة واسعة لأنه المسؤول عن حفظ الأمن والنظام في المجتمع، إضافة إلى مسؤوليات أخرى، منها الإشراف على تنفيذ عقوبات الإعدام. رغم موقعه، برز تواضعه في توسله أمام الرب يسوع، هو الذي يتوسل إليه كل المجتمع، وفي اهتمامه بخادمه كما لو كان ابنا له. قائد المئة لم يكن يهوديا، إلا أنه أظهر إيمانا بالرب يسوع أشد من إيمان الكتبة والفريسيين. ربما انطلق قائد المئة من فهمه لسلطانه لكي يفهم سلطان يسوع. ما يأمر به قائد المئة ينفذ حالا دون جدال، لهذا نسمعه يقول للرب يسوع: قل كلمة لا غير فيبرأ فتاي. رغم علو شأنه، أتى القائد إلى الرب يسوع معترفا بعجزه وعدم استحقاقه، وقد أظهر شدة إيمانه بعدم إحضار فتاه أمام يسوع، لأنه كان متأكدا من أن شفاءه سيحدث. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: هذه سمة إيمان عظيم، أعظم بكثير من إيمان الذين دلوا الكسيح من السقف. فقائد المئة عرف يقينا أن أمرا واحدا يصدر عن يسوع كاف لإنهاض المريض، واقتنع بأن إحضاره معه غير ضروري”.
أضاف: “نقرأ عدة أحداث إنجيلية تظهر لنا أن الرب يسوع أتى من أجل خلاص الكل، ولم يأت إلى أمة وحيدة. من هنا، عرض الرب على قائد المئة الوثني أن يذهب إلى بيته ليشفي الفتى المريض. المحبة والتواضع اللذان أظهرهما الرب جعلا الفضيلة التي لا يراها أحد في قائد المئة تظهر علانية، تاليا جعلنا نتعلم من فضيلته. لو لم يقدم المسيح هذا العرض، بل قال: إمض فليشف غلامك، لما كنا عرفنا شيئا من هذه الأمور. رأى قائد المئة أنه غير مستحق أن يزور الرب بيته، فاستحق لا أن يأتي المسيح إلى بيته فقط، بل أن يدخل قلبه أيضا. لو لم يقبل دخول الرب أولا إلى قلبه، لما تكلم بإيمان عظيم وتواضع. نعرف من سفر التكوين أن الله خلق كل الأشياء بكلمة فقط، إذ كان يقول كن فيكون. هنا، إعترف قائد المئة، دون أن يعلم، بأن يسوع إله عندما قال له: قل كلمة لا غير. لقد أعلن الروماني الوثني ألوهة يسوع التي لم يعترف بها اليهود. عرف القائد أن سلطان الرب يسوع أعظم من سلطانه على مرؤوسيه، فيما كان الكتبة والفريسيون يعتبرون يسوع مجدفا وكاسرا للشريعة. لهذا، قال يسوع لتلاميذه: إني لم أجد إيمانا بمقدار هذا ولا في إسرائيل. كثيرون ممن يظنون أنفسهم أبناء الإيمان، ينكرون المسيح بأفعال وأقوال لا تليق بإيمانهم المسيحي”.
وتابع: “نرتل في عيد العنصرة من المزمور السابع والسبعين: أي إله عظيم مثل إلهنا، أنت هو الله الصانع العجائب وحدك. لدينا إله عظيم، هو المسيح، لا مثيل له، إلا أننا نسعى وراء غيره، وأحيانا نؤله غيره، خصوصا في هذه الأيام التي أصبح فيها الزعماء الأرضيون آلهة في نظر مرؤوسيهم. قائد المئة الروماني، وضع الإمبراطور والآلهة جانبا، واعترف بالمسيح إلها. لهذا قال الرب يسوع: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيلقون في الظلمة البرانية، هناك يكون البكاء وصريف الأسنان. أثنى المسيح الرب على إيمان قائد المئة، الذي كان رومانيا، وثنيا، غريبا عن الإيمان بالله، لكنه ظهر مؤمنا أكثر من الذين يعتبرون أنفسهم من أبناء الإيمان، أي اليهود، عندما اعترف بسلطان المسيح وقدرته الشفائية. اليهود، الذين قصدهم الرب، بعبارة بنو الملكوت تسلموا الشريعة وسمعوا كلام الأنبياء ومن أجلهم بني هيكل أورشليم، لكنهم توقفوا عند الرموز ولم يعترفوا بأن ما سمعوه تحقق في التجسد الإلهي ومجيء المسيح يسوع في وسطهم. اليهود المفترض أن يكونوا مؤمنين يطرحون خارجا، ويدعى المؤمنون من المشارق والمغارب، من الأمم غير المؤمنة، فيتكئون إلى المائدة السماوية مع إبراهيم وإسحق ويعقوب، ويكون إيمانهم دينونة لشعب الله الذي عاين الخلاص لكنه رفضه ولم يصدقه”.
أضاف عودة: “قال الرب يسوع لقائد المئة: إذهب، وليكن لك كما آمنت. كأننا بالمسيح الرب يقول للقائد: إذهب، إن آمنت شفي غلامك، وإن لم تؤمن لن يشفى. أنت حر باختيارك، والنتيجة الأخيرة متعلقة بقرارك الحر. شفاء الفتى المريض يظهر لنا أن قائد المئة اختار أن يؤمن بيسوع، لماذا؟ لأنه أحب. لقد قبل غلامه بمحبة فائقة، مثلما قبل يسوع القائد بمحبته الإلهية وأراد أن يذهب إلى بيته ليؤكد له محبته. يا أحبة، ميزة قائد المئة أنه عرف كيف يتواضع ويحب، على عكس قادة كثر في هذا العالم. لسنا نرى سوى تسيد أكثر، واستعباد أقوى، وكأن القادة ينتقمون من الشعب بدلا من محبته والعمل من أجل تثبيت هذه المحبة لا من أجل تأجيج الغضب والكراهية والحقد. المؤسف أننا، في لبنان، لا نختلف كثيرا. الأهم عند حكامنا ليس الإنسان بل المصلحة والمركز. قيمة الإنسان منسية، وكرامته غائبة. الشعارات في أيامنا أصبحت الطعام. الكلام لا يطعم ولا يعلم ولا يشفي. كل القطاعات في بلدنا تنزف، بدءا من القطاع التربوي”.
وسأل: “كيف تريدون بناء وطن وأنتم تتسببون بإقفال المدارس بسبب الإهمال تارة، والقرارات العشوائية طورا؟ هل نسيتم أن من فتح مدرسة أقفل سجنا؟ نعاين العكس تماما، إذ تقفل المدارس، وتفتح السجون على مصراعيها لإقفال فم كل صاحب رأي حر. وفي حين تتفانى المدارس الخاصة لسد ثغرات التعليم في بلدنا، تتنصل الدولة من القيام بواجبها تجاه القطاع التربوي الخاص ودوره الحيوي، وخصوصا في ظل ما نمر به من ظروف سوداء، الأمر الذي يؤدي إلى احتضار المدارس حتى الإقفال. لماذا لا تلتزم دولتنا حفظ حق الإنسان في إلزامية التعليم ومجانيته وجودته؟ هذا الحق الذي عليها تقديسه لا اغتياله بغية تسطيح العقول وتنشئة أناس مستعبدين لا يجرؤون على التفكير بعيدا من مصلحة الزعيم. إن ثلثي تلامذة لبنان يتعلمون في المدارس الخاصة، وهم لا يحظون بأي دعم من الدولة. وفي حين أن الدولة لم تقم بواجبها وأهملت القطاع التربوي بشقيه الرسمي والخاص، سترت الكنيسة هذا العيب مقدمة الدعم الكبير للتلاميذ، غير أن الكنيسة ليست هي الدولة، ولا تستطيع أن تحل مكانها فيما بعد، خصوصا في أزمة متشعبة كالتي نعيشها والتي استنفدت كل المقدرات. مصير العام الدراسي المقبل مجهول، والدولة هي المسؤولة الأولى عن هذه الكارثة، بسبب تراكم القرارات غير المنفذة على مدى سنوات طوال، بالإضافة إلى انهيار الاقتصاد والتضخم والبطالة. فهل ستكون دولتنا دولة فتح المدارس أم السجون؟”
وقال: “يا قادة بلادنا المحترمين، أخاطب ما تبقى فيكم من ضمير. هل تنامون مرتاحين ومن استلمتم مسؤولية رعايتهم يتضورون جوعا، ويموتون عطشا وانتحارا؟ الناس يغرقون في ظلمة أدخلتموهم فيها بسبب نهجكم العشوائي غير المسؤول؟ يوم الدينونة، سيميز الرب يسوع الشعوب: قسم إلى يمينه يباركه ويقول له: تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم، لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبا فآويتموني، عريانا فكسوتموني، مريضا فزرتموني، محبوسا فأتيتم إلي… الحق أقول لكم: بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتم (متى 25: 31-46). وقسم إلى يساره هم الذين لم يفعلوا أيا من هذه الأفعال المباركة فيقول لهم: إذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وأتباعه” (متى 25: 41)”.
أضاف: “أعود لأقول في أي غابة نعيش؟ ألا تؤثر فيكم رؤية كبار السن يأكلون من مستودعات النفايات؟ ألم تصلكم أخبار من يقايض موجودات بيته بعلبة حليب لرضيعه؟ ألم تلاحظوا عدد المؤسسات التي أغلقت أبوابها، ولم تصلكم أعداد العاطلين عن العمل؟ ولا تزالون تسمحون بانهيار العملة وبرفع الأسعار من دون محاسبة. تهابون غضب التجار وتنهبون تعب المواطنين الذين لم يعودوا يرون في لبنان وطنا لكل أبنائه. إلى متى؟ ألا تكفي الأعوام التي مرت على هذا الشعب الذي شبع، لا طعاما، بل ذلا وتكفيرا ويأسا! أنتم مسؤولون، وسوف يسألكم الرب في اليوم الأخير عما فعلتموه بإخوته الصغار، فبم ستجيبون؟”
وختم عودة: “في النهاية، أسأل الرب الرؤوف المحب البشر أن يلمس قلب كل قائد وحاكم، ويزرع فيه المحبة والتواضع اللذين رأيناهما في قائد المئة. دعائي أن ننعم بالسلام، ونكون جميعا يدا واحدة تعمل من أجل خير الإنسان وكرامته، كائنا من كان، وأن يبعد الله عنا كل وباء وجائحة”.