زرعنا أكثر من البلكون. عشرات الأمتار المُربّعة أنبتت خضاراً مُتنوّعة، وألهمتنا معنى العودة الى “شقاء” الأجداد. التجربة جميلة لأبناء القرى والأرياف، وتُصبح كاريكاتوراً جميلاً لأبناء المدينة. في الريف يُمكن زرع مساحةٍ ما، ولكن في المدينة، سيتحكّم سطلٌ بحجم الإنتاج.
هذا الكلام الزراعي الذي يتكرّر على مسامعنا يأتي من زمن آخر. زمنٌ لا علاقة له بأوضاعنا وظروف معيشتنا. إنّه نوعٌ من التحايل على حجم المُصيبة لإثبات صحّة النظرية وتبريرها، وهو بذلك يُعمِّق الأزمة ولا يحلّها، ويُداوي سرطاناً بحبّة أسبرين.
صحيح أنّ تصحيح الخلل في الإقتصاد اللبناني يفرض تطويراً لحجم القطاعين الزراعي والصناعي فيه، وهذا مطلبٌ رفعته أحزاب وهيئات ونقابات قبل أن تولد الأزمة الراهنة ويولد رموزها، لكنّ التطوير لن يحصل بناء لنصيحة تلفزيونية، وليس بالتأكيد عبر زراعة البلاكين والحواكير واقتناء رؤوس الماعز بهدف تحقيق الإكتفاء الذاتي زراعياً ثم الذهاب الى التصدير، أمّا تطوير الصناعة، فلا يتمّ لمجرّد الحديث عنه، وفِي الأساس كلّ تقنيات بثّ النصائح وتعميمها واستجلاب التعليقات عليها يتمّ عبر أدواتٍ مُصنَّعة في الخارج.
ثمّ، من قال إنّ قطاع الخدمات ليس رُكناً من أركان الإنتاج. في لبنان فاقت حصّة هذا القطاع، الذي يشمل السياحة والإصطياف والتعليم والصحّة الـ60 في المئة من الدخل الوطني، وفِي العالم مدن ودول تعتمد الخدمات ركناً في إقتصادها، وهذه دبي تُقدّم نموذجاً عن المدن المتطوّرة بقطاعها الخدماتي، وسنغافورة نموذج فريد في جعل الخدمات صناعة مالية وتقنية.
وفي موسم الرحيل الى الشرق، لا بأس من التذكير بأنّ جزءاً كبيراً من التبادل بين العدوّ الصهيوني الغاصب وجمهورية الصين الشعبية يقوم على الخدمات، حيث افتتحت اسرائيل أربعة فروع لجامعاتها الأبرز في مدن الصين، بينها فرعٌ لمعهد “التخنيون”، وهي تستقبل سنوياً الف طالب صيني، يدرسون العلوم والمعلوماتية والتقنيات المُعاصرة، فيما تُرسل الصين بضع مئات الى الدول العربية لدراسة اللّغة و”العلوم الدينية”!
يضطرّ اللبنانيون الى سماع دروس الإقتصاد المُعاصر بعدما انهار بلدهم لسببين أساسيين: الفساد المُشرَّع لطبقة الحكّام الذين نظّموا نهب الأموال العامة والخاصة، وإصرار حليفهم القويّ على جعل لبنان قاعدة صاروخية تُعادي العرب المُقتدرين والغرب بكل ما يعنيه، وتحوِّل البلد الى بؤرة دائمة لعدم الإستقرار.
أوغَلَ الحكّام في نهب بلدهم ومواطنيهم، وانسحب المستثمرون بهدوء، خوفاً من الفوضى والحروب، ومن غياب القانون الذي يحمي استثماراتهم فوقعت الواقعة.
والواقعة مُفجعة لأنّ لبنان يقف وحيداً في محنته. لقد مرّت اليونان بأزمة مُشابهة، لكن كان لديها اليورو والإتّحاد الأوروبي وحكومة قادرة على اتّخاذ القرار جاءت نتيجة انتخابات نيابية حقيقية… أما فصيلها المُسلّح فكان انتهى منذ 1947.
اما لبنان، فليس لديه من هؤلاء إلّا ما يجري إقناعنا به عن خيرات ايران ونفط العراق والممرّ السوري الذهبي، وهؤلاء جميعاً لا يتسنّى لنا سوى الدعاء لهم بالخير والفلاح.
ستزدهر زراعة الأحواض لكنّ الزراعة تموت، والصناعي مع الزراعي مع غالبية الناس، يعرفون أنّ الحلّ ما زال بعيداً، ولن يصل مع النخبة المُتحكّمة ببلده الأسير.