والمأساوي أن ما يجري انهاؤه ليس السلبيات في الصيغة والميثاق، بل الإيجابيات فيهما.
دفن صيغة لبنان الكبير
وسنّة المسارات الطبيعية للبلدان والدول، تفترض أن الخروج من صيغة لبنان 1943، يجب أن ينقله إلى صيغة حداثية أكثر تطوراً.
لكن الحروب البادئة في العام 1975 أطاحت هذه الأحلام والمساعي كلها، فجدّد إتفاق الطائف الصيغة، بإدخاله تعديلات سيئة عليها.
أما اليوم، فيجري تفكيك عناصر المناعة في الدولة اللبنانية المتهالكة أصلاً، وصولاً إلى إنهاء ما تبقى من مقوماتها الأساسية: دفن نهائي للصيغة المعروفة، أو دفن لبنان الكبير. لذلك جاء رد فعل البطريرك الماروني بشارة الراعي المدوية: لا نريد خسارة لبنان.
اقتصاد الفقر
هناك مؤشرات كثيرة تبيّن اضمحلال ما تبقى من مقومات الدولة اللبنانية: طريقة تعامل الحكومة والعهد الحاليين مع المسؤولين والديبلوماسيين الدوليين.
وهذا من معالم التهالك الشديد، ليس على صعيد السياسات الداخلية فحسب، بل في نظرة الرأي العام العالمي للبنان.
والمعلم الثاني بالغ الخطورة ولا بد من التنبه إليه: الصراعات على الصندوق السيادي اللبناني. ما من شك في أن هناك خسائر كبيرة قد وقعت.
لكن القوى المتصارعة تريد تحميل مسؤولية هذه الخسائر للشعب اللبناني، من انخفاض القدرة الشرائية، وحجز أموال المودعين، وانخفاض سعر صرف الليرة، إلى عدم الاهتمام بمن ليس لديه حسابات في المصارف.
والإجراءات الحكومية حيال هذا كله، غير قابلة للاستمرار، ولا لإنتاج حلّ ممكن. فدعم المواد الغذائية يفيد مافيات، فيما تتجه المحروقات إلى سوق سوداء أسوأ من سوق الدولار.
وانتقل منطق السوق السوداء المافيوية إلى القطاع الصحي وفحوص فيروس كورونا
ومن الأمثلة على هذا المنطق، المساعدة التي أقرتها الحكومة بقيمة 350 مليار ليرة للتعليم الرسمي، و150 مليار للتعليم الخاص، على قاعدة التوزيع النسبي على المدارس. وبعدها جاءت المساعدة الفرنسية بـ 15 مليون يورو للمدارس الفرنكوفونية.
والمساعدات هذه لن توزع على المدارس، بل على الطلاب بناءً على تقديمهم طلبات للمساعدة. فكل طالب يحتاج إلى أن يتقدم بطلب، ويحصل على المساعدة، بدل أن تذهب أموال المساعدات إلى الصناديق المدرسية السوداء.
اللاجئون
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال خطة وزارة الشؤون الاجتماعية للاجئين السوريين. يشير مضمون الخطة إلى أنها بالغة التفاهة: تبدأ بالإشارة إلى إجراءات الحكومة السورية لتسهيل عودة اللاجئين، وتعدّد المراسيم التي أقرتها الحكومة السورية وتسمح بإعادة اللاجئين.
ولا تتضمن الخطة أي ربط للعودة بالحل السياسي. لا بل ترتكز على الطريقة العونية – الباسيلية على حملة إعلامية لتوفير عودة اللاجئين.
منهبة الصندوق السيادي
وهناك المشكلة الأساسية: كيفية البحث في التعويض عن الخسائر. ففي مقابل رفض تطبيق الكابيتال كونترول، الذي ترفضه المصارف، ستُحمّل الخسائر لصغار المودعين والفقراء.
وتطال الخلافات الصندوق السيادي الذي يضم أملاك الدولة، من شركات الاتصالات والمرفأ والكازينو والمطار وغيرها من المرافق الحيوية. والخلاف الحقيقي هو على الجهة التي ستدير هذا الصندوق.
المصارف تعتبر أن ليس لها علاقة بما جرى
فالأموال صرفتها الدولة. وترى المصارف أن حماية أموال المودعين تتطلب وضع أملاك الدولة في الصندوق السيادي، لتتولى هي (المصارف) إدارته، في مقابل دور هامشي للدولة.
وهنا نعود إلى لعبة السندات والعوائد.
وفي حال لم تنجح الخطة، ننتقل إلى مرحلة ثانية: إستملاك أصول الصندوق السيادي، لاسترداد الخسائر، ودفع أموال اللبنانيين.
وبذلك تكون النتيجة، هدر أموال اللبنانيين وأموال الدولة، ومصادرة ممتلكات الناس والدولة، وبيعها لإعادة سداد الأموال تحت شعار الحفاظ على ودائع المواطنين.
صراعات مافياوية
تشير الصراعات المافياوية الراهنة في لبنان إلى خطورة بالغة، وأصبحت حتمية: يتجه حل الأزمة حصراً نحو حل أزمة القطاع المصرفي، وتعويض الناس ببعض فتات حقوقها.
وهذا يعني أن كل شيء في لبنان أصبح مهدداً: انهيار كبير متحقق استمرار عملية النهب بطريقة جديدة
وإنشاء إمبراطوريات جديدة قوامها الاستيلاء على مساحات واسعة من الأراضي، وزراعتها بالقنب الهندي مثلاً، وتصديره إلى الخارج، بدلاً من تعزيز القطاع الزراعي.
وما ينطبق على الأراضي الزراعية، ينطبق على الأملاك البحرية، واستثمار الشاطئ باستنساخ تجربة الشواطئ التركية أو شرم الشيخ. وهناك مشاريع أخرى، كمرفأ سلعاتا ومعامل انتاج الطاقة فيها.
وهذا كله يحول البلد إلى غنيمة مافياوية كبرى، يدور الصراع حول كيفية توزيع حصصها.