وفي حين دَخَلَ «التفجيرُ الهيروشيمي» الذي ارتفعَ عددُ ضحاياه إلى 171 (ما زال هناك نحو 40 مفقوداً) وأكثر من 6 آلاف جريح أسبوعَه الثاني، بدت بيروت أسيرةَ «سباقٍ مع الزمن» للخروج من حفرة الـ 43 متراً (عمقاً) التي خلّفها تسونامي 4 أغسطس في المرفأ وبحر الدم الذي سال في العاصمة «المذبوحة» على متن حكومة جديدة تخْلف حكومة الرئيس حسان دياب التي «استُقيلت» أول من أمس، وتعبّد الطريق أمام مرحلةٍ إما تكون انتقاليةً لتمرير استحقاقات دولية وإقليمية بالحدّ الأدنى من «صمامات الأمان» التي تحول دون السقوط الكامل للبلاد، وإما تكون إنقاذية بالبُعدين السياسي والمالي.
وإذا كان لطبيعة كل من هاتين المرحلتيْن «عُدّةَ» شغلٍ مختلفة على صعيد شكل الحكومة وشروطها وقوة الدفْع لها، وهو ما لم يكن ممكناً بعد التقاط «طرف الخيْط» فيه، فإن أوساطاً واسعة الاطلاع رجّحت ألا يتبلور المنحى الفعلي لمسار التكليف والتأليف المتلازميْن قبل الثلاثاء المقبل موعد صدور الحكم المؤجَّل (من 7 أغسطس الجاري) عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بحق 4 متَّهَمين من «حزب الله»، وسط انطباعٍ بأن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبيروت في الأول من سبتمبر، باتت بمثابة «مهلة إسقاط» لاستيلاد تشكيلةٍ توائم بين تطلعات الشعب اللبناني التي يعبّر عنها منذ 17 أكتوبر 2019 في الشارع وبين متطلبات المجتمع الدولي سياسياً وإصلاحياً.
وترى هذه الأوساط أن الحُكْم في زلزال 14 فبراير 2005 وما ستتضمّنه حيثيات الإدانة المرجّحة من وقائع تعاود رسْم «المسرح السياسي» للجريمة وخلفياتها بشخصياته اللبنانية وغير اللبنانية، سيشكّل عنصراً يَدْخل حُكماً في «شدّ الحبال» حول طبيعة الحكومة الجديدة التي تراوح بين حدّين:
الأول حكومة محايدة أو مستقلّة تطالب بها قوى سياسية وازنة وهو ما يحبّذه الخارج.
والثاني يدفع أطراف الغالبية البرلمانية بقيادة «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» في اتجاهه ويقوم على التراجع عن حكومة اللون الواحد التي ترأسها دياب و«إعادة عقارب الساعة» لِما قبل استقالة الرئيس سعد الحريري في أكتوبر 2019 على وهج الثورة، أي تأليف حكومة وحدة وطنية برئاسته بما يسمح بإصابة «أكثر من عصفور بحجر»، وخصوصاً لجهة الدخول في شراكة سياسية مع «وليّ الدم» ومحاولة شراء الوقت ريثما تنقضي الانتخابات الرئاسية الأميركية عبر استخدام خصوم «حزب الله» مجدداً بمثابة «دروع سياسية» للتغطية على إمساكه بمفاصل القرار الاستراتيجي وجرّه لبنان إلى أحضان المحور الإيراني.
وإذ تعتبر الأوساط أن الحُكمَ في جريمة الحريري سيقوّي موْقع الداعين في الداخل والخارج إلى حكومة مستقلّة، رأت أن زيارة ماكرون الذي سيشارك في احتفال مئوية لبنان الكبير باتت بمثابة «خط النهاية» الموضوع لبتّ الملف الحكومي، بعدما كان حدّد إبان محطته في بيروت الأسبوع الماضي (أي قبل استقالة الحكومة) الأول من سبتمبر خطاً فاصلاً لتغيير الأوضاع وإرساء الإصلاحات الملموسة من ضمن مسارٍ لبلورة عقد سياسي جديد وإلا «سيكون التعاطي مختلفاً»، رغم الاقتناع بأن تحقيق هذا الأمر الذي سيشكّل سابقة في تأليف الحكومات في لبنان سيكون صعباً نظراً إلى عدم التقاط معطيات حاسمة حول وجود تفاهُم إقليمي – دولي على المرحلة المقبلة لا يمكن فصْله عن مرتكزات المكاسرة الطاحنة الأميركية – الإيرانية التي اشتدت في الأشهر الأخيرة ويشكّل «حزب الله» جزءاً لا يتجزأ منها.
وفي حين برزت إشاراتٌ أمس من فريق رئيس الجمهورية ميشال عون إلى أن الأولوية في الاستشارات الجانبية والتمهيدية لتحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة لتسمية رئيس الوزراء الجديد هي لحكومة وحدة وطنية كان تحدّث عنها ماكرون، فإن أوساطاً أخرى استوقفتْها تسريباتٌ صحافية تحدثت عن أن لا مبادرة محورها حكومة وحدة وأن الفرنسيين تراجعوا عن هذه الفكرة «بذريعة خطأ ترجمة كلام ماكرون».
علماً أن أول تعليق من باريس بعيد استقالة حكومة دياب تضمّن تأكيد أولوية «تشكيل حكومة جديدة بسرعة» مع تحديد أجندة عملها بـ «إعمار بيروت وتلبية مطالب اللبنانيين حول الاصلاحات» إذ «من دون إصلاحات سيتجه لبنان نحو الانهيار».
وفي حين كانت الأوساط الواسعة الإطلاع تعتبر أنه يصعب تَصَوُّر الفصل هذه المرة دولياً بين الوجه المالي للأزمة اللبنانية وبين جوهرها السياسي المرتبط بوضعية «حزب الله»، استوقفها أمس تطوران بارزان:
* الأول تأكيد الحريري أنه «غير معني بالتحليلات والأخبار التي يتداولها الإعلام بشأن عودته إلى رئاسة الحكومة، وأن جهده وجهد الكتلة والتيار (المستقبل) ينصب الآن على وسائل رفْع الكارثة عن بيروت وأهلها»، وهو ما بدا، أقله حتى الآن، بمثابة قطْع الطريق على مسار حكومة الوحدة الوطنية برئاسته. علماً أنّ هذا الموقف هو ما كان انتهى إليه الحريري غداة استقالته، إذ أقصى ما ذهب إليه حينها قبوله بترؤس حكومة مستقلّين بعيداً من أي محاصصة سياسية وحزبية (وهو ما رفضه بقوة تحالف عون – «حزب الله») بما يلبّي مطالب الشارع – يُعتبر حتى اليوم «جبهة الرفض» الهادرة لأي حكومة تعيد تجربة التشكيلات التحاصصية – والمجتمع الدولي المُعارِض آنذاك لإشراك «حزب الله».
ناهيك عن أن أي ترؤس «لحكومةِ ما بعد الحُكم» في قضية اغتيال رفيق الحريري من ضمن تركيبة تضمّ الحزب، ستضع الحريري الابن بوجه بيئته التي يبذل جهوداً كبيرة لـ «مصالحتها» بعد الأضرار التي أصيبتْ بها شعبيّته على خلفية التسوية مع «التيار الحر» التي أفضت إلى انتخاب عون رئيساً.
* والثاني بروز إشاراتٍ إلى أن زيارة الديبلوماسي الأميركي ديفيد هيل لبيروت الجمعة، حيث سيلتقي كبار المسؤولين ويتناول الغداء إلى مائدة الحريري سيتخللها نقل موقف واشنطن الداعي إلى ضرورة الذهاب إلى تشكيل حكومة مستقلّة وحياديّة (وهذا ما تدعمه دول الثقل العربي)، يشارك فيها أصحاب الاختصاص والكفاءة وتمهّد لإطلاق الإصلاحات كمدخل لتقديم الدعم المالي الذي يفتح الباب أمام نهوض لبنان بمعزل عن «الممر الإنساني» الإغاثي لاستيعاب ارتدادات تفجير 4 أغسطس، إلى جانب إثارته ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل الذي يشيع بعض الأوساط أن الائتلاف الحاكم يحاول استخدامه كورقة لمقايضاتٍ سياسية، فيما تعتبره واشنطن جسراً قد يساهم في «الحفر» من حول «حزب الله» وسحب الذرائع لتبرير وضعيته خارج الشرعية، وذلك من ضمن مسارِ «قضْم» مضاد لذاك الذي اتكأ عليه الحزب للقبض على لبنان.
وفي موازاة ذلك، كان فريق السلطة يرسم خطوطاً حمراً حول أي حكومة حيادية وحول اسم نواف سلام الذي طُرح بقوة بعيد استقالة دياب والذي يحظى بتأييد شعبي عارم وعربي ودولي، كما حول طرح الانتخابات النيابية المبكرة الذي تستخدمه قوى المعارضة من باب الضغط لحكومة مستقلين إلى جانب ورقة الاستقالة من البرلمان، وإن لم يكن ممكناً الجزم بما إذا كان «جسم» هذه القوى موحّد في المضي حتى النهاية بالضغط تحت هذا العنوان.
وإذ برز أمس أول تعليقٍ على استقالة حكومة دياب من رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي غرّد «أما وقد استقالت الحكومة، الأولوية الآن هي للإسراع بتأليف حكومة منتجة وفاعلة وإعادة بناء الثقة بالدولة… نحن في التيار أوّل من يسهّل وأوّل من يتعاون»، بدا واضحاً وفق مصادر سياسية أن الحكومة الجديدة لن تتألف إلا بتأثيرِ واقعِ «التدويل» الذي انزلقت إليه البلاد بالكامل بعد تفجير المرفأ متخوّفة من انكشاف لبنان على أزمات متداخلة ما لم يتم سريعاً رسْم أطر لمخارج آمنة من المأزق الخطير.
واستوقف هذه المصادر استمرار الحركة الخارجية في اتجاه بيروت التي زارها أمس وزير الخارجية المصري سامح شكري، الذي أعلن بعد لقاء عون «وقوف الرئيس عبدالفتاح السيسي والشعب المصري إلى جانب لبنان في هذه الظروف الصعبة»، لافتاً الى أن «جسراً بحرياً سيؤمن المواد اللازمة لإعادة الإعمار وتأهيل المرفأ والممتلكات المتضررة»، ومشدداً على «أن هناك ضرورة للعمل خلال هذه الفترة على الأولويات الخاصة بالشعب اللبناني، لجهة التحديات الإنسانية وإعادة الإعمار، والخروج بإطار سياسي يمكنه مواجهة الأزمة بشكل وثيق ويحافظ على استقرار ووحدة لبنان، ويعفي البلد من التجاذبات الإقليمية التي كان لها تأثيرها ووقعها خلال الفترة الماضية».
كما زار بيروت في الإطار نفسه، وزير خارجية الأردن أيمن صفدي الذي أكد وضْع «إمكانات بلاده في تصرف لبنان في أي مساعدة يحتاجها اللبنانيون في هذه الفترة الأليمة».
لبنان المفجوع في غرفة العناية… الدولية
18 أغسطس والأوّل من سبتمبر، تاريخان مفصليان بدا أنهما يحكمان مسار تشكيل الحكومة الجديدة في لبنان الذي وَجَدَ نفسه غداة «بيروتشيما» ينزلق إلى «العاصفةِ الشاملة»، بعدما تَشابَكَ فجأةً وكـ «خيوط العنكبوت» الانهيارُ المالي المريع مع التفجير المروّع الذي وَقَعَ في مرفأ بيروت وأعاد الواقع الأمني (سواء من باب الإهمال أو العمل المفتعل) إلى «رأس المخاوف»، كما مع ملامح ما هو أدهى من أزمةٍ سياسيةٍ مؤسساتية – دستورية بحال لم تنجح القوى الوازنة في توفيرِ جسرِ العبور السريع فوق أنقاض زلزال 4 أغسطس وتفادي أن تتحوّل معه الجمهورية برمّتها… حطاماً.