ديار الإلفة ومضاربها
من سنين أعلم من هم شبان الدراجات النارية وفتيانها الأشاوس الأوباش، أو المتحولين أوباشًا فور امتطائها وانطلاقهم بها في الشوارع. وأعلم من يكونون في زقاق البلاط الذي تعوّدت العبور متمهلًا في شوارعه غروب نهارات تلك السنين الكثيرة.
فياما أبصرتهم يقفون متحلقين يتحادثون هنا وهناك، على نواصي شوارعهم الداخلية المتقاطعة. وفي وقفاتهم يبدون كأنهم من هذه الشوارع ولدوا الآن في أعمارهم فتيانًا وشبانًا، ولم يولدوا ويعيشوا في بيوت ليست سوى مآويهم الطارئة والطاردة، وهي زوائد حياتهم في الشوارع. وهم هنا – بتجمعهم وتحادثهم زمرًا قرب دراجاتهم النارية التي يجلس بعضهم على مقاعدها – في ديرتهم ومضاربهم ومرابع فتوتهم الأليفة المقبِّضة وتجمُّعِ وزمرهم.
تشبههم البنايات البرشاء المغبرّة على جنبات الشوارع. والبيوت من الداخل تشبههم، وسكان البيوت يشبهونهم، وكذلك حياتهم فيها. كل شيئ وحركة هنا امتدادٌ لأجسامهم، لتجمُّعهم واقفين على النواصي. الرمادي أو الرصاصي الأغبر هما لون العالم والأشياء هنا، كحضورهم الكثيف الذي يفور في الشوارعَ فوران هويتها الكثيفة الكئيبة، وأتخيّل أنها تنطوي على تجديدٍ مشوَّهٍ لأصداءٍ من الحياة والعلاقات المتخثّرة في ساحات قرى أهلهم الراحلة.
وياما فكرتُ في أحوالهم وسِيَر حياتهم وحياة أهلهم الغاربة في القرى، كلما أبصرتُ شلةً منهم تقف في ديرتهم هذه، في غروب النهارات وأمسياتها. وكثيرا ما ألّفت من مشاهدهم نتفًا من سيرهم المتخيلة، في ورش ومخازن كسور الحياة وحطامها في أحياء هذه المدينة. وأعلم وأتخيلُ وشهدتُ الكثير الكثير من أفعالهم في حيّهم هذا وسائر أحياء بيروت وشوارعها.
غارةٌ على تمثال الحريري
فمنذ اغتيال رفيق الحريري سنة 2005 صاروا قوة صاعدة، فاعلة وضاربة، في حياة بيروت وضاحيتها الجنوبية، وفي الحوادث الأهلية “السياسية” البيروتية واللبنانية. فأخذوا يثيرون اضطرابًا وقلقًا وشغبًا منظمة كلها في المدينة، بعدما أدخلوا الدراجات النارية سلاحًا لوجستيًا منظمًا في حركتهم ونشاطاتهم اليومية.
في مناسباتٍ كثيرة صادف أن شاهدتُ بعضها، وأتذكر أقله اثنتين مشهودتين وعاصفتين منها: إشعالهم حرائق بدواليب السيارات المطاطية المستعملة التالفة، على مدخل نفق سليم سلام القريب من ديرتهم. ومشاركتهم في تلك الغارة الانتقامية، الكيديَّة، العاصفة والفرِحة، على تمثال رفيق الحريري المنصوب في مكان اغتياله قبالة فندق سان جورج.
وصادف أن شاهدتهم هناك أرتالًا يتقافزون عن دراجاتهم النارية كالقرود، ويغيرون على التمثال. اجتاحوا الفسحة المزروعة بالبرسيم حول منصته، وتحلقوا حوله صارخين هازجين، مرسلين له بأيديهم وأرجلهم حركات بذيئة. زمرة منهم اندفعت إليه، فتسابقوا على تسلّقه، وامتطى بعضهم كتفيه امتطاء دابّةً، محركين بتلك الحركات البذيئة سيقانَهم على صدره، فيما أيديهم تتشبث برأسه وتضمه إلى جذوعِهم، كأنهم يفتعلون ذلك الفعل بامرأة.
أخيرًا اختتموا مشهدهم هذا بأن غطوا رأسه وخنقوه بعلم من أعلامهم أو راياتهم. ثم تقافزوا من جديد إلى دراجاتهم النارية، فامتطوها في هرجٍ ومرجٍ وهياجٍ، مسعورين فرحًا، فيما كانت أرتالهم تنتظم وتنطلق مجدّدًا نحو كورنيش بيروت البحري في اتجاه المنارة والحمام العسكري.
غريب الهويات وصلَفِها
في الثواني التي مرت بعد اصطدام دراجة الشاب النارية بسيارتي، ويقظتي من ما يشبه تلك الغيبوبة الذهنية الدفاعية اللاواعية الخاطفة، وانتباهي إلى مكان وقوع الحادثة، ومن يكون شاب الدراجة الصاروخية السرعة، فارت في ذهني المضطرب سيناريوهات قاتمة ومقيتة عما قد يحصل. وهي سيناريوهات تتصل بغابة الهويات الفائرة في كل مكان وشارع من الغابة البيروتية اللبنانية.
وأنا غريب الهويات وصلَفِها، بدّدَ الاصطدام المفاجئ تحرري من ذات النفس وهويتها، وتبددَ انسيابُ ذهني المنسرح سائحًا في تداعيات بلا ضوابط. والتحرر والانسياب هذان عادةً ما تفترضهما قيادة السيارة، وقد يشبهان عبورها المتمهل في شوارع داخلية أو محلية، ومشاهدها المتتالية.
لكن هيهات لمثل هذه الرياضة اللاإرادية أن تنعقد وتستمر لأكثر من هنيهات قليلة في فوضى الشوارع اللبنانية، وتوحش سائقي السيارات والدراجات النارية في هذا الخراب المتراكم مزمنًا، والزاحف في العمران والأماكن العامة ومشاهد الحياة اليومية.
وفي سني عبوري الكثيرة بسيارتي في شوارع زقاق البلاط الكثيرة التقاطعات، في حوالى السابعة والنصف غروبًا ومساءً، تعوّدت اجتياز المسافة بطيئًا بطيئًا بين محلة “البطركية” العالية ومدخل نفق سليم سلام. وفي غروب ذاك النهار، عندما أبصرتُ الدراجة النارية تطوّح بسائقها، منطلقين نحوي بسرعة جنونية، كانت سيارتي تتقدم متباطئة نحو منعطف، قبل اجتياح الدراجة مقدمها.
وبعد يقظتي من الغيبوبة الخاطفة للصدمة، اندلع في وعيي سيناريو الهويات. أعلم من يكون شاب الدراجة، ليس على المعنى الشخصي والمعرفة الشخصية. بل على معنى هوية الجماعة الأهلية التي صدر عنها وينتمي إليها، وصنع مع أمثاله من أجيال شبان زقاق البلاط هويتها الجديدة.
وعلى الرغم من نفوري الثقيل، المزمن والمضني، من هذه الهوية الجديدة التي تتميز بصلفها وعدوانيتها الفائضين عن أمثالها من الهويات الغاشمة كلها في لبنان، داومتُ على العبور بسيارتي في شوارع زقاق البلاط الكئيبة دائمًا، وفي وقت عبوري الذي لا يستغرق أكثر من دقيقتين أو ثلاث في حوالى السابعة والنصف مساءً، عائدًا من رياضة المشي على رصيف كورنيش رأس بيروت البحري.
وفي عبوري اليومي هذا، غالبًا ما أقتفي أثر ما فعلته صلابة الهويات وصلفها الجديدين، في حيوات البشر وعمرانهم، بعدما تكوّنت تلك الهويات الجديدة في معمعة الحروب والتهجير والقتل وخراب العمران طوال 15 سنة (1975 – 1990)، ومثلها تقريباً من زمن مشروع إعادة الإعمار الحريري (1992 – 2005)، الذي بادره بالضغينة المبّيتة عليه حزب الحرب والتحرير الإيراني في لبنان.
مضافات الثنائي الشيعي
قوة الاصطدام، ويقظتي على من أنا، ومن يكون شاب الدراجة النارية، تركاني قاعدًا للحظات خلف مقود سيارتي، قلقًا حائرًا وخائفًا، ولا أدري ما الذي يمكنني أن أفعله.
فأي قدر أو مصادفة رمياني في ما أحدس مسبقًا كم هو ممضٌّ، تافهٌ ومكدِّر ومذلٌ، تورطي فيه. وسرعان ما أبصرتُ ما لا يقلُّ عن 15 شابًا وفتىً يتحلقون حول سيارتي مع شاب الدراجة إياه.
بدا الشاب أكبرهم سنًا وأشدهم بأسًا وشكيمة: عضلاته مفتولة بارزة موشومة بأشكالٍ وألوانٍ كثيرة على جلد عضديه وساعديه وكتفيه وصدره.
وقد يكون الشاب يتقدمهم مرتبة قياديّة ودالة في المحلة أو الحيّ، وفي سلاح فرسان “الثنائي الشيعي” للدراجات النارية.
وكان بين المتحلقين رجل أو اثنان، قد يكونان من أصحاب محال السمانة والملبوسات في الشارع الصاعد من حسينية زقاق البلاط، أو قلعته الاجتماعية والحزبية في نهايته السفلى، ويتصل أعلاه ويتقاطع عند محطة الضناوي للمحروقات، بالشارع الصاعد من البسطا التحتا.
وحول الحسينية – القلعة، وفي شوارع زقاق البلاط، تتكاثر مقاهٍ ومطاعم للمناقيش، تلتقي فيها وأمامها حلقات من رجال وشبان وفتيان، تناصر “الثنائي الشيعي”.
والمضافات هذه، نهارية وليلية، للأكل والشرب وتدخين النراجيل ولعب الورق والمسامرات التي ليست سوى رياضة للاحتشاد أو الاستنفار الحزبي ومهامه المتصلة بأعمال يومية متواضعة، متقطعة وغير منتظمة في الحيّ وخارجه.
وهي متصلة أيضًا بسكن المحتشدين في المضافات، وبأهلهم في الحي، وبتنقلهم على دراجاتهم النارية في أحيائهم البيروتية الأخرى، القريبة والبعيدة، وصولًا إلى الضاحية الجنوبية، والاتصال والتواصل اليوميين بها.
لكن المعقل البيروتي الأشهر لسلاح فرسان دراجات “الثنائي” النارية، هو الخندق العميق في صولات فرسانه وجولاتهم وهجماتهم المسعورة الشهيرة والمشهودة في الشهور الأخيرة المنصرمة على متظاهري/متظاهرات ومعتصمي/معتصمات ساحتي الشهداء ورياض الصلح في وسط بيروت.
والمعقل هذا متاخم لزقاق البلاط ومتصل به، ويشكلان معًا الخزّان البيروتي لذاك السلاح، عندما تقتضي الحاجة إلى حملات منظمة في الاستنفار والعراضات والتخويف والهجوم والاعتداء العنيف.