كتب نقولا ناصيف في “الأخبار”: في الغالب أسهل الخيارات تسمية الرئيس المكلف، وأصعبها تأليفه الحكومة. يحدث ذلك منذ اتّفاق الدوحة. تسمية الرئيس المكلّف مصطفى أديب كان كذلك. مشكلته المقبلة أن يكون أقوى من حكومته لا ـ كسلفه ـ أضعف منها لئلا تنهار من الداخل.
منذ إقرار اتفاق الطائف، لم يسبق أن دُعي إلى ترؤس حكومة موظف أياً علا شأنه وموقعه. امتحان خبرته رئاسة الجمهورية مرتين عامي 1998 و2008. أسلاف الرئيس المكلف مصطفى أديب إما رؤساء حكومات سابقون أو وزراء أو نواب. وحده الرئيس رفيق الحريري جاء من عالم مختلف اختلطت فيه المقاولات والأعمال بالوساطات. لم يكن موظفاً في الإدارة، وبدا مذ انخرط في العمل العام اللبناني منذ أواخر السبعينات حتى عام 1992، بصعود متدرّج، أنه أكثر أهمية من كل أولئك الذين سبقوه أو خلفوه.
لذا على مرّ حقب تأليف حكومات ما بعد إقرار اتفاق الطائف، كان الحريري الأب الاستثناء الوحيد من بين مواصفات أولئك. لأن المرحلة كانت استثنائية، كان حضوره، في أولى حكوماته استثنائياً في ظل أزمة نقدية واقتصادية خانقة، وانتقال للسلطة اللبنانية مثّلتها انتخابات ذلك العام، فعُدَّت مهمته استثنائية في ظروف استثنائية. لذا قيل إن ترؤسه الحكومة كان أهم من الحكومة نفسها، بفعل الآمال المعقودة عليه منذ ما قبل تكليفه. مع ذلك كبّلته دمشق بحكومة وضعت نصابها الموصوف بين يديها. لم يسبقه، أو يخلفه، رئيس استثنائي للحكومة في ظروف استثنائية، بما في ذلك ما حدث بعد اغتياله عام 2005، ثم بعد الحرب المذهبية الصغيرة في أيار 2008.
الاستحقاق الحالي أكثر من استثنائي. يشبه ما رافق عام 1992، ويفوقه في وطأة الضائقة النقدية والاقتصادية وخطورتها، مع انهيار يكاد يكون شبه تام. ويشبه ما رافق عامي 2005 و2008 ويفوقهما، خصوصاً بعد قرار المحكمة الدولية واستعادة تسعير الشارع السنّي – الشيعي. إلا أن الرئيس الجديد للحكومة ليس استثنائياً في حجم المرحلة الاستثنائية التي أُدخِل في أتونها.
قد لا يكون في مواصفاته – إلى اختصاصه وشهاداته العالية – ما يُغري كي يوازن ما سيُقبل عليه. أن يكون سفيراً في ألمانيا من خارج الملاك ليس كافياً. ولا كونه يحمل الجنسية الفرنسية. ولا لأنه زامل وزير الخارجية السعودية فيصل بن فرحان عندما كان سفيراً في ألمانيا بضعة أشهر عام 2019. ثمّة مَن يقول إن الزمالة تلك عزّزت حظوظه في التواصل الفرنسي – السعودي لاختيار رئيس مكلف للحكومة اللبنانية. الرجل المجرَّب في السفارة طوال سبع سنوات، ليس كذلك في السياسة اليومية للبنان بكل توازناتها وانقساماتها ومناوراتها وآلاعيبها. وإذا صحّ ما نُسب إلى الرئيس سعد الحريري قوله في اجتماع رؤساء الحكومات السابقين، إن حكومة أديب عمرها أربعة إلى ستة أشهر فقط كي تأتي بالمال إلى البلاد، من ثم «الشغل علينا»، فذلك يعني أنه سيكمل ما كان بدأه سلفه الرئيس حسان دياب وأخفق. اللهم إلا إذا أنزل الفرنسيون الخشبة.
كان في الإمكان أن يعني تكليف أديب حدثاً استثنائياً لو لم يتم تعيينه بطريقة أقل من عادية. عندما سمّاه الرؤساء السابقون للحكومة، من بين اسمين آخرَين لم يلقيا فعلياً أي اهتمام أو إصرار، كان المقصود هو بالذات. الرئيس نجيب ميقاتي اقترحه بعدما عمل أديب مستشاراً لديه مدة طويلة، وتبنّاه الحريري الذي فاتح الفرنسيين به. لم يكن ليمرّ من دون موافقة مسبقة من الثنائي الشيعي. في ظاهر ما حدث أن الحريري سمّاه، والواقع أنه صاحب الإعلان عنه، بينما باطنه أن الاسم دار على أكثر من دائرة قرار في لبنان وخارجه، من غير أن يكون الفرنسيون والسعوديون بعيدين من تسهيل اختيار اسم يحلّ محل الحريري في السرايا. بذلك يشبه وصول أديب إلى السرايا الطريقة التي كُلّف بها كل أولئك الذين ألّفوا منذ عام 2008 حكومات الوحدة الوطنية، كالحريري والرئيسين فؤاد السنيورة وتمام سلام. باستثناء حكومتي ميقاتي عام 2011 ودياب عام 2020، ووُصِفتا بأنهما “حكومة اللون الواحد”، اختير سائر رؤساء الحكومات من بيت الوسط.
بيد أن تكليف أديب اتّسم بأكثر من ظاهرة لافتة:
أولى، كسر قاعدة الأقوى في طائفته، فجيء بالموظف لا بالزعيم ولا بصاحب الغالبية السنّية في البرلمان والشارع. بالتأكيد لم يكن دياب الأقوى في طائفته، ولا أظهر أنه مشروع زعيم سياسي محتمل، وطُبِعَ بصفة رئيس حكومة 8 آذار من غير أن يُوزَّر أحد من أحزابها، إلّا أن هذه هي التي أدارتها، وإحداها هي التي أرغمتها على الاستقالة عندما دعاها الرئيس نبيه برّي إلى المثول أمام مجلس النواب. هذه المرة الأضعف في طائفته يترأس حكومة تحظى برضى الأقوياء فيها. وقد يكون ما حدث – إذا صحّ أن الخارج ضالع في الوصول إلى مواصفات كهذه – أول محاولات إنهاء القاعدة التي أفضت إلى تدمير الدولة واقتصادها.