لا تقتصر العواصف السياسية التي تضرب لبنان على الحكومات التي تتساقط، بل إنها تطال أيضاً رؤساء الجمهوريات، في حين أن مجلس النواب الذي يُفترض ان يكون أم المؤسسات في بلد برلماني لا “يلكشه” أحد، والدليل تربع الرئيس نبيه بري على عرش كرسي الرئاسة الثانية منذ العام 1992.
في احدى الجلسات مع النائب السابق والمرجع الدستوري إدمون رزق، وهو الشخصية التي عايشت عهود معظم رؤساء الجمهورية قبل “الطائف” وشارك في هذا الإتفاق، ينقل رزق عن الرئيس الراحل الياس سركيس الرواية الآتية: “عندما انتُخب سركيس الذي يوصف بالرئيس الآدمي، قرّر أن يحيط نفسه بفريق عمل من الأوادم وعلى رأس هؤلاء وقع اختياره على الرئيس سليم الحص ذي السيرة الحسنة والنبيلة في المؤسسات، ولم يكن الحص يومها زعيماً سنياً مثل رشيد كرامي او صائب سلام، فأتى سركيس بالحص رئيساً للحكومة للعمل على حماية لبنان وإنقاذه من الحرب، خصوصاً أن الحص لا يملك أطماعاً زعامتية، وبعد فترة قليلة تفاجأ الرئيس سركيس بأن الحصّ أصبح يزايد سنياً كي يكسب شعبية في الشارع السني، عندها كانت خيبة الأمل كبيرة لدى الرئيس الآدمي”.
هذه الرواية هي انطلاقة لما يحصل مع كل رجل عندما يتربع على عرش أي كرسي، والأمر لا ينطبق فقط على رئيس الحكومة السني، بل بشكل فاضح على الموارنة الذين دمّروا أنفسهم للوصول إلى بعبدا، وأيضاً عند الشيعة حيث لا يتزحزح بري منذ 28 عاماً عن الكرسي، من هنا يمكن القول إن الرئيس المكلف مصطفى أديب أعطى نموذجاً فريداً يمكن البناء عليه.
قد يقول البعض إنها ليست التجربة الأكاديمية الأولى، فالرئيس الراحل سليمان فرنجية شكّل في عهده حكومة الشباب لتعطي دفعاً لكنها لم تستطع الإكمال، في حين أن الفترة الممتدة بعد “الطائف”، أي من العام 1989 إلى 2005 لا تدخل الحسابات الحكومية لأن الإحتلال السوري كان يستخدم وصايته على الحكومات.
بعد زلزال 14 شباط 2005 تمّ إعادة تكليف الرئيس عمر كرامي لكن الضغط الدولي لم يسمح له بالتأليف فاعتذر وتم الإتفاق على الرئيس نجيب ميقاتي لإجراء الإنتخابات حينها، وبعد انتخابات 2009 إعتذر الرئيس سعد الحريري عن تأليف الحكومة بعد رفضه توزير الراسبين لكنه أعيد تكليفه وقبل بتوزير الوزير جبران باسيل الذي رسب حينها في البترون.
منذ تكليفه التأليف، كان أديب يردّد دائماً أنه إذا لم يستطع تطبيق ما وعد به سيعتذر ويعود إلى وظيفته كسفير لبنان في ألمانيا، بعضهم وصفه بـ”المجنون” لأنه لم يتمسك بالكرسي، والبعض الآخر أشار إلى أن أديب يطبق النموذج الغربي بأنه عندما تنتهي ولاية أي مسؤول يعود إلى وظيفته، في حين أن كثراً قالوا إنه سيتمسك بالمنصب حتى لو طال التأليف أشهراً، مثلما فعل الرئيس تمام سلام، وينطلق منها ليباشر مشروع زعامة سنية، لكن الحقيقة أن أديب فعل ما لا يتوقعه كثر واعتذر.
وليس هناك من نية لأديب أن يعود إلى المهمة الصعبة ويتنازل إذا لم يكن التأليف مشروطاً بحكومة تلبي طموحات الشعب، وبالتالي كل الكلام الذي يسري بأنه سيعود ويتنازل لا أساس له من الصحة لأنه قد حسم قراره، فلا تنازل إلا بما يخدم مصالح الشعب والتزاماً بالمبادرة الفرنسية الإنقاذية.
يعلم أديب جيداً أن البلاد دخلت في “جهنم”، لكنه يدرك جيداً ان البقاء من دون ان يؤلف يعني استنزاف الفرص الإنقاذية، بينما اعتذاره كشف المعطلين على حقيقتهم وأمام اللبنانيين والدول الخارجية وعلى رأسها فرنسا.