قسّمت العهود الرئاسية اللبنانية تاريخياً إلى ثلاثة أقسام: الأول سنتان بعد الانتخاب لتركيز العهد والفريق ووضع الخطّة، فيكون العهد في أوج صعوده. في السنتين التاليتين مرحلة بدء الخصومات السياسية واستفحالها، فتتغير تحالفات وتتبدّل سياسات.
أما في السنتين الأخيرتين، فيبدأ العهد أو الرئيس التحضير لمرحلة المغادرة، فيبحث عن مصالحات مع مختلف القوى السياسية، إذا كان طامحاً لتأمين المسار المكمّل، كما كان الحال أيام الشهابية. وقد تكون المصالحات نزولاً على رغبة الرئيس بالتمديد أو التجديد.
لكن عهد ميشال عون يختلف عن هذه السياقات. ففي أقسامه الثلاثة كان عهد جبران باسيل. عهد باسيل الذي انتهى قبل أن يبدأ، واستعجل وأده قبل ولادته.
رفض مكسور
المواقف التي أطلقها ميشال عون من القصر الجمهوري أمس 21 تشرين الأول، رفضاً لتكليف سعد الحريري رئاسة الحكومة، لم تؤد إلى أي نتيجة.
لم يكن ليقول ما قاله إلا لتبرير انكساره وتنازله وخسارته، من الأسبوع الفائت حتى اليوم. وهو لم يخرج رافضاً الفساد، ولا لتحميل المسؤوليات للآخرين، بل خرج لقطع الطريق على عودة الحريري، ورمي كرة التعطيل في ملعب النواب محملاً إياهم المسؤولية.
حماية الصهر
لكنه في دردشته مع الصحافيين، مرر كلمة مفتاحية تنسف كل مسار خطابه. قال: “بذلت جهود كثيرة بين الحريري وجبران باسيل للمصالحة، ولكن اللقاء لم يعقد ولم تتوفر ظروفه، ولو أنا تدخلت لقالوا إنني محسوب على طرف وأنا حكم”.
المشكلة مجدداً هي جبران باسيل، ولو عقد اللقاء وحصلت المصالحة مع الحريري، لما احتاج عون لمثل هذا الخطاب ولا للتبرير، ولا وضع نفسه في هذا الوضع المنكسر، الذي وجد أنه وحيد فيه، وغير قادر على حماية صهره أو تأمين مصلحته، والوقوف عند رغبته وتلبية تطلعاته وصناعة مستقبله.
جسر باسيل المتصدع
ولم يكن خطاب عون مختلفاً عن سوابقه، مع فارق أنه يعلن نهاية مبكّرة للعهد. نهاية تبدأ مع تكليف رئيس للحكومة كان هو الذي فتح طريق عون إلى بعبدا، وأعلن باكراً عن انطلاق عهده.
إنها مفارقة عجيبة، تماماً كما هي حال عودة سعد الحريري، بعد سنة بالتمام والكمال، إلى رئاسة حكومة استقال منها بسبب اندلاع التظاهرات والاحتجاجات.
لم يكن عهد عون إلا عهد تعبيد الطريق أمام باسيل لوراثة القصر. لم يعمل الرئيس طوال سنواته لإنجاز المشاريع، ولا لمحاربة الفساد. فمن اتهمهم بذلك كان حليفهم وشريكهم، وحاول في أكثر من محطة خطب ودّهم، والحفاظ على العلاقة معهم، كرمى لعيني باسيل.
كان بإمكان عون أن يسيّر سنوات عهده بعيداً عن الانقلابات المتوالية، ضد الحريري، وسمير جعجع، وسليمان فرنجية، ونبيه بري، وحتى حزب الله. لو متّن العلاقة مع الجميع، لترك السنتين الأخيرتين لتوفير فرص انتخاب باسيل خلفاً له.
وحيداً بين يدي حزب الله
اختار عون خوض المعركة منذ اليوم الأول لعهده، فتفجرت ألغام كثيرة أحرقت العهد والبلد معاً. ولولا حجم الضغوط لأصر عون أمس على مساره ومسيرته، مستنداً على قاعدة التعطيل لتحقيق المكاسب وفرض الشروط. لكن الضغط الدولي والداخلي لم يسمح له بذلك.
حاول الاستناد إلى اتصال وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو لتعزيز وضعه، فلم يفلح.
عاكسته رياح الولايات المتحدة، على الرغم من تقديمه الكثير من اوراق الاعتماد، بدءاً من عامر الفاخوري إلى ترسيم الحدود واختيار أعضاء الوفد. ولم توائمه الرياح الفرنسية، فبقي الحريري الخيار الأوحد ليكون على رأس حكومة تحفظ ماء وجه فرنسا ومبادرتها.
والمفارقة هي التقاء الحريري مع جنبلاط وبرّي وحزب الله والمجتمع الدولي على إنجاز الاستشارات، وسط دعوات لتسريع عملية التأليف.
إنها المعركة الأولى التي يكون فيها عون بهذا القدر من العزلة. وإن كان حزب الله لن يسمي الحريري، تضامناً مع حليفه المسيحي، وسيدعم شروطه لتأليف الحكومة.
الثأر الأخير الفاشل؟
لم يعد لدى عون إلا إشهار سيف توقيعه للتعطيل وفرض الشروط. لم يعد الحلفاء مضمونون، ولا الأكثرية النيابية عادت مجدية. تبددت على وقع السياسات والتطورات. سياسات لطالما عارضها عون وأعلن مواجهتها. لكن الآن لم يعد قادراً على فعل ذلك.
بأسىً ارتضى الخسارة في تكليف الحريري، ورغماً عنه وعن تياره، حتى وصل الأمر أن يكون اسم الحريري يتردد في القصر الجمهوري على لسان النواب، بينما باسيل غائب وغير حاضر في الاستشارات اعتراضاً.
لو عادت المسألة لعون لأطاح بالاستشارات. أفكار كثيرة جالت بين جدران القصر طوال هذا الليل القصير الذي مرّ سريعاً. توالت الأفكار حول أي اقتراح قابل لإطاحة الاستشارات. لكن لم يكن في اليد حيلة.
سينتظر عون مرحلة التأليف ليثأر من الحريري.
قد يتعهد بعدم تمرير أية حكومة للحريري، إلا برضاه ووفق شروطه.
إلا إذا أوصلته الظروف نفسها إلى هزيمة جديدة، فتفرض عليه الضغوط الدولية حكومة لا يرضى عنها ولا يريدها.
كل شيء أصبح ممكناً.
فقط العهد القوي لم يعد قوياً.