إنهاء أزمة ثقة بالدرجة الأولى

13 يناير 2021
إنهاء أزمة ثقة بالدرجة الأولى

أهم ما في الڤيديو المسرّب عن «دردشة عفوية» بين الرئيس ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب (وبغضّ النظر عن الملابسات التي أحاطت به، وما إذ كان متعمّدا أو مقتطعا) أنه أخرج أزمة الثقة بين عون والرئيس المكلف سعد الحريري الى العلن.. ففي لقاء على هامش اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، سأل دياب عن تأليف الحكومة، وأجاب عون قائلا: «ما في تأليف»، غامزا من قناة الحريري من دون أن يسمّيه، ليقول: «بيقول عطاني ورقة، بيكذب وعامل تصاريح كذب. وهلق ليك إديش غاب. ليك حظهم اللبنانيين، وهلق راح على تركيا».. كلام قابله الحريري برد عبر «تويتر» انتقى كلماته من الكتاب المقدس لا تتناسب والمشهدية السياسية. وبين الكلام والرد عليه، ارتسمت صورة قاتمة، إذ كيف لطرفين يتبادلان الاتهامات أن يجلسا الى طاولة واحدة، وانهارت احتمالات حصول خرق وتقدم في المسار الحكومي المتعثر، بعد خروج أزمة الثقة بين بعبدا وبيت الوسط الى العلن. وبعد ساعات على السقف السياسي المرتفع للنائب جبران باسيل، جاء «التسريب الصوتي» لرئيس الجمهورية الذي اتهم فيه الرئيس المكلف بـ«الكذب»، ليزيد الأمور تعقيدا، خصوصا أن الرئيس أشار الى أن الحريري لم يقدم له أي تشكيلة يُعتدّ بها، متوقعا ألا تكون هناك حكومة قريبا.

أزمة الثقة موجودة منذ ما قبل التكليف الذي لم يكن عون يريده وحذر من تبعاته في كلمة «رسمية»، وتفاقمت في فترة التأليف عندما كشف الحريري عن قراره بعدم الاتصال والتفاوض مع باسيل، وبألا يكون شريكا له في الحكومة.. أزمة الثقة لاحظها ولمسها ثلاثة أطراف أساسيون:
٭ أولا: الفرنسيون الذين اكتشفوا باكرا أن الأزمة الحقيقية تكمن في غياب الثقة بين عون والحريري. فمن اللحظة الأولى، ومع تأكيدهما على الالتزام بالمبادرة الفرنسية، اتهم عون الحريري بمحاولة الالتفاف على مضمونها من خلال محاولته إقصاء رئاسة الجمهورية عن المشاركة الجدية في التأليف، وإقصاء فريق مسيحي وازن عن المشاركة في عملية الإنقاذ لإظهاره مسؤولا عن الأزمة في البلاد. وفي المقابل، كان الحريري يبدي استعداده لمناقشة تشكيلته الحكومية، لكن من دون العودة الى حكومات التسويات التي كبّلته سابقا وستمنعه لاحقا من الإنجاز.

ومع وجود أزمة ثقة عميقة، فإن مسألة «اليوم التالي» (في حال تشكلت الحكومة) كانت تقلق باريس كثيرا، لأن مجلس الوزراء سيتحول الى ساحة لتصفية الحسابات السياسية، وسيمنع حصول أي عملية إصلاحية جدية في ظل الكيدية السائدة بين الطرفين. وفي الواقع، بات الفرنسيون على قناعة بعدم وجود «نوايا صافية» لدى الطرفين، وما سمعوه من كل واحد تجاه الآخر أشار بوضوح الى صعوبة التعاون البنّاء بينهما. فالرئيس عون لم يُعطِ خلال جولات التفاوض أي إشارة تفيد بأنه راضٍ عن عودة الحريري الى رئاسة الحكومة، وعدد على مسامع الفرنسيين الفرص التي أهدرها بسبب عدم جديته وسوء إدارته و«مراهقته» السياسية، وتمسكه بسياسات اقتصادية ومالية أفقرت البلد. كما لم يبدِ عون أي اقتناع بقدرة الحريري على إخراج البلاد من أزمتها، لأن همّه الوحيد مع حلفائه في المنظومة السياسية إضعاف العهد ومنعه من تحقيق أي إنجاز فيما تبقّى من الولاية الرئاسية، ولهذا يصف عون هذه العلاقة بأنها «زواج بالإكراه».
وفي المقابل، لم يبدِ الحريري ارتياحه إزاء العودة الى الشراكة مع عون، وكان يشكو دائما للفرنسيين من «هيمنة» باسيل على القرار في قصر بعبدا، ويُعرب عن اعتقاده بأن رئيس الجمهورية ليس راغبا في تسهيل مهمته لاحقا، لأن المكتوب يُقرأ من عنوان التأليف، وبالتالي لا يظن أنه قادر على الإنجاز إذا ما ظل عون يمارس سياسة «التوريث». وذهب الحريري الى حد المطالبة بضرورة استمرار المتابعة الفرنسية بعد التأليف إذا ما قدّر للحكومة أن تبصر النور، لأنه غير واثق أبدا بوعود التعاون التي سبق وجرّبها إبان التسوية الرئاسية التي انتهت بانقلاب الفريق الآخر عليها.
٭ ثانيا: بكركي التي استنتجت بأن الثقة مفقودة بين الطرفين ولا إمكانية لولادة الحكومة قبل ترميم ما هو متصدّع. ولذلك انطلق البطريرك بشارة الراعي في مبادرة بدت أقرب الى وساطة، وتوخّت معالجة العلاقة المتوترة، وذهبت باتجاه طرح عقد لقاء مصالحة شخصية في بكركي.
في «خلوة الميلاد» التي تأخرت لأسبوعين، أطلع عون الراعي على نتائج اللقاءين اللذين جمعاه مع الحريري، مشيرا الى أن الخلاف لا يزال مرتبطا بغياب المعايير الموحّدة وعدم توزيع الحقائب بشكل عادل على الطوائف، وإصرار الحريري على الحصول على وزارتي العدل والداخلية معا.. اقترح الراعي على عون أن يجتمع مع الحريري في بكركي، ولكن عون لم يوافق ولم يرفض، وإنما اكتفى بأن أشار الى أنه سيدرس الأمر. فبالنسبة له اللقاء ليس هو المشكلة، وقد سبق وأن التقى الحريري على مدى 14 جلسة لم يتم التوصل فيها الى نتيجة، مع العلم أن الجلسة الأخيرة كانت الأسوأ قال بعدها الحريري إنه يتعرض لكل أنواع الضغوط من عون لدفعه الى تقديم تنازلات والقبول بالشروط، أو ليصل الى خيار الاعتذار.
٭ ثالثا: حزب الله الذي لم يدخل بعد على خط التقريب والتهدئة بين الطرفين، ويحاذر القيام بهذا الدور أو التورط في مهمة ليست سهلة ويمكن أن تفشل. يعرف حزب الله أن أي مسعى جديد يجب أن يركز على مسألة معالجة أزمة الثقة بين الطرفين، ويعرف أيضا أن المشكلة الفعلية هي بين الحريري وباسيل، وأن الصراع السياسي بين عون والحريري يمكن اختصاره في عقدة أساسية هي الدور المستقبلي لجبران باسيل. ذلك أن الحريري يعتقد أن باسيل انتهى في السياسة بغض النظر عن حجمه النيابي أو الحجم الشعبي لتياره، وبالتالي لن يقبل الحريري تثبيت باسيل في المعادلة المقبلة، ولا تجديد العقد السياسي معه وإعادة إحياء التسوية الرئاسية السابقة أو إنتاج تسوية جديدة. وهذا ما دفع باسيل الى التصعيد وتكبير حجره وقوله إن الحريري لا يملك الأهلية لقيادة الإصلاح، وأن حكومة المهمة انتهت، وأن النظام يجب تغييره.
حزب الله يتصرف بدقة وتأنٍ وحذر في مقاربته لموضوع العلاقة المأزومة بين عون والحريري.. لم يوافق الحزب بداية على رغبة عون بعدم تكليف الحريري، ومرّر الى بري إجازة مرور التكليف مسايرا عون في عدم تسمية الحريري. للحزب حساباته التي تدفعه في مرحلة التأليف الى مراعاة عون والانحياز له، مع التمسك ببقاء الحريري إذ لا بديل آخر لرئاسة الحكومة، ولا مصلحة في العودة الى خيارات استفزازية للطائفة السنيّة. حزب الله ما زال يعتبر أن تأمين الاستقرار الداخلي والمساعدات الدولية يستوجب بقاء الحريري في معادلة الحكم، وأن مسؤولية التعثر في الملف الحكومي لا تُحصر في جهة واحدة، وهذا ما عكسه كلام السيد حسن نصرالله في اطلالته الأخيرة. ومن الواضح أن تمسك الحزب ضمنيا بالحريري يثير حفيظة التيار الوطني الحر الذي كان رفع مستوى الضغوط على الحريري الى الحد الأقصى لتحقيق واحد من هدفين: إما التنحّي طوعا بمجرد اكتشافه أنه لا يتمتع بتأييد أكثرية نيابية، وإما تراجعه عن شروطه ورضوخه لمطالب التيار كخيار وحيد باقٍ أمامه في حال أصرّ على التمسك بمنصب رئاسة الحكومة. ولكن بقاء الضغط على الحريري محصورا بالتيار من دون مساعدة حزب الله، يدفع الحريري الى التشبث أكثر فأكثر بمواقفه.