قد تكون لهذه المقولة مبرّراتها ومقوّماتها الكثيرة، وغير الخافية على أحد، فالتشابه بين جريمة اغتيال سليم، والباحث العراقي هشام الهاشمي في بغداد قبل أشهر، أكثر من أن تُعَدّ وتحُصى، بدءًا من الظروف السابقة واللاحقة، مرورًا بطريقة التنفيذ والإخراج، وصولاً إلى التداعيات المحتملة والتأثيرات الكبرى للجريمة على الواقع العام.
وإلى هذا التشابه المرصود، تشابهٌ آخر في الظروف الموضوعيّة بين لبنان والعراق، الواقعيْن في أزمةٍ سياسيّة لا حدود لها، والعالقيْن بين معسكراتٍ تتجاذبها جهاتٌ وأطرافٌ إقليمية بالجملة، من دون إغفال التقاطع شبه المُعلَن أيضًا، بين “حزب الله” في لبنان و”الحشد الشعبي” في العراق، والارتباطات العضويّة لكلٍّ منهما.
مخاوف مشروعة
استنادًا إلى ما تقدّم، باتت المخاوف من “عرقنة” الوضع اللبناني، انطلاقًا من جريمة الاغتيال، مشروعة للكثير من الأسباب والاعتبارات، ليس أوّلها أنّ الجريمة شكّلت بحدّ ذاتها، أول “خرق أمنيّ” من نوعه منذ سنوات طويلة، علمًا أنّ آخر موجة اغتيالاتٍ سياسيّة شهدها لبنان تعود إلى العام 2005، وتحديدًا في مرحلة ما بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري.
ولذلك، كان من الطبيعيّ أن يتوجّس كثيرون من أن يكون مقتل سليم “مقدّمة” لموجةٍ جديدةٍ من الاغتيالات، قد تكون “البيئة الخصبة” لها متوافرة، من خلال غياب الاستقرار السياسيّ، والجمود الكامل في المشهد، والذي يعزّزه الاستقطاب الحاصل بين فريقي “العهد” وخصومه، في ظلّ العجز المتمادي عن تأليف حكومةٍ تستطيع ضبط الأوضاع، ولو بالحدّ الأدنى.
وعطفًا على هذا التوجّس، ثمّة خشية ولّدتها جريمة الاغتيال، من أن يكون لبنان مُقبِلاً على مرحلةٍ تشبه تلك التي اختبر ويلاتها في مرحلة ما بعد العام 2005، والتي أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه من تأزّم على مختلف المستويات، علمًا أنّ ردود الفعل الأولية على الجريمة أوحت بانقسامٍ عموديّ، يكاد “يطابق” ذلك الذي طبع مرحلة “8 و14 آذار”.
ماذا بعد؟
في مقابل فرضيّة “عرقنة لبنان”، أو استنساخ “النموذج العراقيّ”، ثمّة من يرى أنّ لبنان تفوّق على العراق، وتجربته مع الاغتيالات السياسيّة سابقةٌ أصلاً للتجربة العراقيّة التي تبقى حديثة نسبيًّا، خصوصًا أنّ الاغتيالات لم تتوقّف عمليًا في لبنان، وإن “استراحت لوجستيًا” لبعض الوقت، من دون أن تخفّ تأثيراتها أو تداعياتها في الواقع العمليّ.
لكن، وبمُعزَلٍ عن التشخيص والتوصيف، تبقى الخشية الأكبر، التي يعبّر عنها الكثير من المطّلعين، هي من “الطابور الخامس” المرافق لمعظم الأحداث في لبنان، خصوصًا في ظلّ الأجواء المشحونة التي ولّدتها حادثة الاغتيال منذ اللحظات الأولى، والتي قد تخفي بين طيّاتها، نوايا “خبيثة”، أيًا كان الفاعِل والمرتكِب.
وبعيدًا عن منطق الاتهامات والاتهامات المُضادة، بين من يرى في “حزب الله” متّهَمًا طبيعيًّا ومنطقيًّا، استنادًا إلى كون المغدور من معارضيه الشرسين، ومن يعتبر في المقابل أنّ “لا مصلحة” له بالمُطلَق بارتكاب مثل هذه الجريمة، ثمّة من يعتبر أنّ “المصيبة” تبقى في “الاستثمار السياسيّ”، والذي جاءت مؤشّراته الأوليّة لتقرع “جرس الإنذار” على أكثر من مستوى.
لا يبدو لبنان جاهزًا لتكرار سيناريو 2005، الذي جرّبه بما يكفي، ولا لاستنساخ السيناريو العراقيّ، ولو أنّ كثيرين يعتقدون أنّه بات يعيش في صلبه، بل قد يكون واقعه أسوأ بأشواط، إذ إنّ لديه ما يكفي من أزماتٍ ومصائب، ولا قدرة لديه على اجتذاب المزيد منها. لكن، للخروج من هذه الأزمات، وعدم الوقوع بمتاهات غيرها، لا بدّ من استقرارٍ سياسيّ، تبقى مقوّماته بعيدة المنال، حتى إشعارٍ آخر…