الأمن ليس بخير.
بعيدًا عن التهديدات “الكلاسيكيّة” من أعمال إرهابية، والتظاهرات العنفيّة في الشارع، والأمن الجنائي من سرقات وقتل، والتلاعب بالعملة الوطنية… ثمّة تهديد من نوعٍ آخر غير مسبوق تواجهه المؤسسات العسكرية والأمنية.
هو التهديد نفسه الذي يرزح تحت ثقله “المدنيون” منذ أكثر من سنة، والمتمثّل بالأزمة المالية الحادة التي حوّلت اللبنانيين إلى “أكياس ملاكمة” ينتظرون بقلق كبير الضربة القاضية.
الأزمة “على الكلّ”. هذا صحيح. لكنّ تداعياتها على العسكر هي أخطر وأعمق، بسبب المَهام الملقاة على هؤلاء، والتي لا تحتمل “ترف” التهرّب منها و”تسكير الخط”، طالما أنّ أمن البلد على المحك.
العسكري ينفّذ الأوامر حتّى مع بطنٍ جائع وجيبة مفخوتة. لا تحتمل “المهمّة”، العادية منها أو تلك المحفوفة بالمخاطر، ترف التقاعس عن أدائها. والعسكري، من كبار الضبّاط ونزولًا، لا يستطيع تعويض الانهيار الدراماتيكي في قيمة راتبه بـ”شغل برّاني”، كون ذلك يشكّل مخالفة للقوانين.
حالات الفرار من المؤسسات العسكرية والأمنية ليست خبرًا جديدًا، لكنّ الخطورة تكمن في ارتفاع نسبتها مؤخرًا ربطًا بالأوضاع المعيشية، وعدم قدرة بعض العسكريين على تأمين متطلّبات قوتهم اليومي براتب شهري انهار إلى أقلّ من مئة دولار.
والأزمة أزالت الفوارق تمامًا بين الضبّاط والعسكر. الجميع منكوب ويتخوّف من خروج الأزمة عن ضوابطها، ما يهدّد “الالتزام بالقسم” حين يصبح الهدف فقط “تأمين اللقمة”.
وبرغم الحوافز التي يحصل عليها الضباط، فقد بات هؤلاء ينشغلون بالحديث عن أسعار الزيت واللحمة والمعلّبات ومتطلّبات المنزل… ووصلت الهواجس الى حدّ طرح سؤال يجدر بمن يقود سفينة الانهيار أن يسمعه: “أيّ أمن وأيّ استقرار بمؤسسات باتت تعتمد التقنين بالبنزين وتنقّل الآليات واستخدام الأوراق، والدوامات، وخفّفت الدورات العسكرية في الخارج، وتخلّت عن الأساسيات في وجبات الطعام، و”تحسب الحساب” إذا تعطّلت آلية أو ماكينة طباعة أو جهاز هاتف...”.
الأزمة “على الكلّ”. هذا صحيح. لكنّ تداعياتها على العسكر هي أخطر وأعمق، بسبب المَهام الملقاة على هؤلاء، والتي لا تحتمل “ترف” التهرّب منها و”تسكير الخط”، طالما أنّ أمن البلد على المحك
يوم السبت الفائت عُقد اجتماع في اليرزة برئاسة وزيرة الدفاع زينة عكر، وحضور ممثلي الأجهزة الأمنية للبحث في موازنات الأجهزة العسكرية والأمنية.
وفق المعطيات لم يتطرّق المجتمعون إلى الميزانيات المالية للعسكر، بل تمّ البحث بالمواد المتعلّقة بها. فقد تنبّهت وزيرة الدفاع إلى أنّ الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة، يرفعون سنويًّا موازناتهم إلى رئاسة الحكومة ووزارة المال، من دون تنسيق في المواد القانونية التي تتضمّنها، مع العلم أنّها تنطبق على الأجهزة كافة، ما يعكس تفسيرات مغايرة من كلّ جهاز لهذه المواد.
فاقترحت عقد اجتماع تنسيقي للذهاب إلى وزارة المال برأي موحّد في شأن المواد القانونية المُدرجة في الموازنة.
وهو أمر يطبّق للمرة الأولى ولاقى استحسانًًًا لدى ممثلي الأجهزة. كما تمّ الاتفاق على وضع اقتراحات حول التعديلات في بعض المواد في موازنة 2021.
تفصيلٌ مهمّ لكنّ الأهمّ لا يبشّر بالخير.
فميزانيات الأجهزة العسكرية والأمنية على حالها، ولا تعديل فيها رغم بلوغ الدولار عتبة العشرة آلاف ليرة، وعدم وجود أيّ مؤشر جدّي لولادة الحكومة قريبًا، والأزمة المعيشية والاجتماعية تتفاقم بما يؤثّر مباشرة على معنويات العسكر واستمراريتهم في السلك.
والمعضلة الأبرز تكمن في الترقيات العالقة منذ عام لأكثر من حجة، من ضمنها التحسّب من الأعباء المالية الجديدة.
وفي أوساط الضباط من يقول صراحةً: “مستعدون للتنازل عن المستحقّات المالية مقابل الترقية كون قيمتها معنوية وهي حقّ مكتسب”.
وتضمّن مشروع الموازنة الذي رفعه وزير المال وقف الترقيات، مع العلم أنّ الفوارق بين الرواتب مقارنةً بسعر صرف الدولار باتت هزيلة، إذ تبلغ 700 الف ليرة بين عقيد وعميد (أي ما يعادل 70 دولارًا) ومن نقيب لرائد 200 ألف (20 دولارًا).
وتؤكّد مصادر مطلعة أنّ “الجيش يعاني أزمة حقيقية (كما في باقي الأجهزة) مرتبطة بتأمين البزّات العسكرية والطعام وأعمال الصيانة، وجميعها تُحسب بحسب سعر الدولار في السوق السوداء، فيما الميزانيات على حالها”.
أما الرواتب فكارثة وقعت على رؤوس الغالبية العظمى من اللبنانيين وليس العسكر فقط. مراجعة وزير المال تنتهي بجوابٍ واحد ومتكرّر: “ما في مصاري”.
واقع تدركه وزيرة الدفاع وقائد الجيش، تمامًا كما باقي الأجهزة الأمنية، ولذلك تأتي قرارات التقشف من داخل الأجهزة نفسها.
وفق المعطيات لم يتطرّق المجتمعون إلى الميزانيات المالية للعسكر، بل تمّ البحث بالمواد المتعلّقة بها. فقد تنبّهت وزيرة الدفاع إلى أنّ الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة، يرفعون سنويًّا موازناتهم إلى رئاسة الحكومة ووزارة المال، من دون تنسيق في المواد القانونية التي تتضمّنها
وخلافًا لما أشيع مؤخرًا لا زيادة للعسكر من خارج جدول الرواتب، لوازم “الجبنة واللبنة والخبز وحليب الأطفال…”.
بكل بساطة لأنّ الخزينة “تصوفر” وغازي وزني وزير من دون مال، وأيّ إضافة للعسكر قد تدفع موظفي الوزارات و”الدولة” إلى الانتفاضة ضد “التمييز”.
ولا غرابة في هذا المشهد طالما أنّ وزير المال أعدّ أصلًا موازنة 2021، وأحالها في كانون الثاني الفائت إلى رئاسة الحكومة على أساس سعر صرف 1500، فيما الدولار يحلّق صاروخيًّا، لأن لا سقف لارتفاعه ولا قدرة على ضبط تعدّد أسعار التعامل بالدولار.
وهي طبعًا موازنة لا تمتّ إلى الواقع بصلة لناحية الإيرادات والنفقات المقدّرة للسنة الحالية، طالما أنّ أركان الدولة برمّتهم لا يعلمون الى أين سيقودهم “قطار الانهيار”.
ومجرد استمرار مصرف لبنان بتمويل فواتير استيراد الفيول والمازوت والقمح والأدوية بالدولار على أساس 1500 سيخفّف من عبء الأزمة على الأسلاك العسكرية.
لكنّ هذا الأمر غير مرتبط بما تشتريه هذه الأسلاك من سلع غير مدعومة من مصرف لبنان، وهي أسعار مضخّمة وخيالية تتماهى مع السوق السوداء، ويفرضها التجّار على الجيش وباقي الأجهزة، والاعتمادات المرصودة لها لا تكفي لتغطية قيمتها الحقيقية مع الأكلاف التشغيلية.
وهذا ما يفسّر التقشف في وجبات الطعام والنوادي العسكرية، وأيضًا بقاء الرواتب على حالها في ظلّ استحالة تصحيح الأجور حاليًّا.
من الإجراءت المتخذة مؤخرًا في الجيش، حسم كمية من المحروقات عن كل قسيمة محروقات خاصة معبّأة في المحطات العسكرية.