من اليونان بلد الفلاسفة الى لبنان بلد الأرز، بدأت رحلة ماريكا اسبيريدون، وإسمها الحقيقي فيكتوريا، على متن باخرة من مرفأ أثينا، حين وعدها قبطان السفينة الذي أغواه جمالها الخارق، بالمجيء معه الى بيروت “مدينة الأحلام”، فاستدرجها الى غرفته وعاشرها برضاها، ثم أبحرت معه على متن السفينة التي رست في ميناء بيروت في العام ١٩١٢.
من الباخرة الى وسط بيروت، وتحديداً الى شارع “المتنبي” بقبابه العثمانية أو ” السوق العمومية” والذي كان لصيقاً بالمرفأ ثم إختفى بالكامل بعد انتهاء الحرب وإعادة إعمار وسط العاصمة المدمر، بدأ نجم ماريكا بالسطوع في عالم البغاء الذي شرّعه بشكل رسمي “فرمان عثماني” في العام ١٨٨٠، ثم قانون “حفظ الصحة العامة من البغاء “في شباط من العام ١٩٣١، مقسماً بيوت الدعارة الى صنفين: البيوت العمومية وبيوت التلاقي.
بسرعة قياسية، أصبحت ماريكا اليونانية زعيمة فتيات الهوى في سوق “الأوادم”، ولهلوبة الحياة الليلية في بيروت بعد أن ورثت المنزل الذي عملت فيه من مالكته ، وحولته الى فندق، فأعادت ترميم المبنى الذي طُلي باللونين الزهري والأصفر مع لافتة مضيئة تحمل إسمها وهي الوحيدة في الشارع، وسكنت الطبقة الأخيرة منه.
استمرت ماريكا، التي حملت ألقاباً عدة منها “ملكة السوق” و “أم اليتامى” و “أسطورة الجنس اليونانية”، بممارسة الدعارة بنفسها وكانت تسعيرتها الأعلى في السوق، وعمل تحت إمرتها أكثر من مئة فتاة و نحو عشرين موظفاً غالبيتهم من القبضايات وكانوا يؤمنون الحماية للفندق والرقابة على الفتيات العاملات فيه وأحياناً إصطياد فتيات جديدات وزبائن.
اعتمدت ماريكا، التي حملت لاحقاً الجنسية بموجب زواجها من لبناني كان يعمل بقالاً وكان “آخر من يعلم بعمل زوجته”،على الرشى مع كبار النافذين لتسيير أمورها فكانت تختار من يدخل بيتها وزبائنها بنفسها.
تواصلها الدائم مع رجال الأمن دفعها لإعتماد “شيفرة” بينها وبين الزبائن لتسهيل عملها، فعبارة “الفستان صار جاهز” تعني أنها أحضرت الى البيت فتاة جديدة، أما عبارة” بَعَتولي الفستان من المصبغة” فتعني أن الفتاة التي كانت مريضة قد تعافت وإستأنفت عملها.
ماريكا التي أصبح إسمها مرادفاً لأقدم مهنة في التاريخ والتي ترسخت كآخر الأسماء الباقية في الذاكرة الجماعية اللبنانية، شكلت ظاهرة إجتماعية لافتة اتسمت بإزدواجية “الليل والنهار” وذلك قبيل أفول نجمها، إذ مهدت لمرحلة التوبة لاحقاً بأعمال الخير والإحسان والأفضال على الكثيرين، فكانت تقوم بزيارة المياتم ودور العجزة والعائلات المتعثرة نهاراً متبرعة بمبالغ سخية.
بقي عمل ماريكا ” شغالا” حتى بداية الحرب الأهلية، ومع اندلاع حرب الفنادق، وتدمير شارع المتنبي بالكامل والذي تحول من شارع يختزن الرغبات الى خط فاصل ومهجور بين أطراف النزاع، هجرت ماريكا فندقها الى منطقة في ضواحي بيروت حيث أمضت بقية حياتها التي ناهزت الخامسة والتسعين وحيدة، بعد أن تبرعت بكامل ثروتها لمصلحة البلدة التي عاشت فيها والتي رفضت عند مماتها أن تحتضن مقابرها جثمان ماريكا الذي صُلي عليه لكن من دون رثاء.
“ماريكا المجدلية” كان آخر لقب إكتسبته في مرحلة التوق والرجاء الى التوبة ربما عن قناعة عميقة أو خوفاً من أحجار الراجمين، فرحلت ماريكا تاركة إسماً يلخص مهنة، وشارعاً في بيروت سُمي زوراً على إسم أحد أكبر شعراء الفروسية وإعجاز البيان لدى العرب الذي ورد في لاميته الشهيرة “لك يا منازل في القلوب منازل” وشارع استسلم، كما البلد برمته، لخراب الحرب.