تتناسل الأزمات في لبنان، فيتنقل بينها، قافزاً من أزمة إلى أخرى.
ومن الصعب الحسم في من المسؤول عن هذه المأثرة التدميرية: أهل السياسة، أم المجتمع، أم التناحر الطائفي، أم الطابع الشخصي للمعارك السياسية؟
حزب وعهد
وقد تتداخل وتتشابك هذه العوامل وسواها الكثير معها.
وقد اجتمعت كلها في العهد العوني “القوي”، فتبلورت بمراس سياسي يقوم على الشخصانية الفردية، والفتاوى الدستورية والسياسية التي تتلاءم معها..
وهكذا أُدخل لبنان في زمن العبث المدمّر على مختلف الصعد.
وهو زمن دائري يأخذ اللبنانيين في متاهاته، بلا أي مخرج يكسر هذه الرتابة الدائرية.
رتابة حطمت كل ما له علاقة بدستور ومؤسسات، بإشراف حزب كبير وقوي يهتم بالاستراتيجيات الخارجية والمعارك الإقليمية.
وترك لبعض حلفائه تقاسم السلطة والمغانم الداخلية حصصاً ونتفاً، فتورط أكثر فأكثر وأمعنوا –بإشراف الحزب إياه- في إفساد العقول وكل ما يمت لها بصلة.
ومعركة اللبنانيين بالتحديد مع هذا المركب السلطوي العجيب، الفاسد والمفسد..
وتعالت الصرخات سابقاً، لكنها ما لبثت أن اختنقت في نزاعات وصراعات شخصانية ومصلحية طبعت جموع المنتفضين في 17 تشرين 2019 وما بعده.
سيرك عوني جديد
ومن الأزمات التي ينتقل إليها لبنان: المعركة السياسية والبرلمانية التي تفتتح في جلسة تلاوة رسالة رئيس الجمهورية الموجهة إلى مجلس النواب، محملاً فيها الحريري مسؤولية تعطيل تشكيل الحكومة، ويضع المجلس النيابي أمام مسؤولياته.
ستُعقد الجلسة، وقد تتخللها اشتباكات سياسية وكلامية، هجوماً ودفاعاً على المنابر. ولن يكون ذلك سوى مدخل، بل سيرك جديد للإمساك بخيوط اللعبة السياسية والانتخابية.
وذلك استنجاداً بالخطب الدستورية العصماء التي سيشدو بها المشرّعون.
وحتى لو لم يسمح الرئيس نبيه برّي بذلك، واكتفى بتلاوة الرسالة -وهذا مستبعد حتّى الآن- فإن ميشال عون يرفض أن تقف الأمور عند حد تلاوة الرسالة فقط، وتجنّب تداعياتها. وهو أرسلها لتحدث دوياً يحرّك المياه الراكدة.
ويفكّر عون في ما بعد تلاوة الرسالة.
وهو يقلّب الكثير من الأفكار والخطوات التي يقدم عليها استناداً إلى مبدأ تعزيز صلاحياته.
ولا بد للرسالة من أن يكون لها مفاعيل عملانية في المرحلة المقبلة.
فالرسالة تتضمن تحميل المجلس النيابي المسؤولية، وتضعه في وجه معالجة التكليف الذي منحه للحريري “العاجز عن تشكيل الحكومة”، حسب الرسالة.
ويوحي هذا بنيّة عون الإقدام على خطوة أكبر تجاه المجلس النيابي، وقد يعتبرها رئيسه إهانة جديدة، أو توجهاً عونياً لفتح جبهة جديدة ضد المجلس، تصل إلى حدود التلويح بتقديم استقالات جماعية منه.
وهذا ما كان لوح به رئيس التيار العوني جبران باسيل سابقاً، لإسقاط تكليف الحريري بسبب عدم القدرة على سحب التكليف منه.
صلاحيات وانتخابات
وبهذه المعادلة التي يرافقها الكثير من التوتر السياسي والمذهبي والطائفي، في إطار المعارك المفتوحة على الصلاحيات، تتخذ الوجهة السياسية منحى سيئاً جداً، قوامه التعقيد والعرقلة.
وتصبح القوى السياسية كلها أسيرة حسابات انتخابية: تقاذف المسؤوليات، إسقاط تكليف الحريري، الصراع على الصلاحيات، وغيرها من المسائل الخلافية المرتبطة بحياة الناس وحقوقهم.
وتتحول هذه العناوين كلها إلى مواد استثمار سياسي تحضيراً للانتخابات المقبلة.
وهذا استحقاق يحتاج في لبنان إلى الكثير من التوتير لشد العصب الطائفي والمذهبي.
والطريق السلبية هذه التي لا يجيد عون سلوك سواها، لتحقيق أهدافه من رسالته إلى المجلس النيابي، تؤدي إلى اصطفاف عمودي على أساس الصلاحيات بناءً على خلفية مذهبية وطائفية.
وهذا يعمق الأزمة ويزيدها تعقيداً.