في ظل التحضيرات الجارية لإجراء الانتخابات التشريعية العراقية في تشرين أول ( أكتوبر) المقبل يشهد الوسط الشيعي على وجه التحديد تململاً من أحزاب السلطة وحراكاً مستمراً لإنتاج قوى جديدة في المشهد السياسي الحالي.
وخلال العامين الماضيين بدأت تتبلور حركات وتوجهات سياسية كسرت الرتابة في الساحة الشيعية التي بقيت حكراً على الإسلاميين منذ أول تجربة انتخابية بعد سقوط نظام صدام حسين في 2003، فغلى جانب التيار الإسلامي التقليدي الذي يمثله التيار الصدري وتيار السيد عمار الحكيم وأحزاب أخرى معتدلة مقابل التيار الراديكالي الذي تمثله الأحزاب الموالية لإيران والتي تتبع ولاية الفقيه ظهر في الآونة الأخيرة تيار ثالث بات ينمو بشكل سربع في الوسط الشيعي كرد فعل على الإسلام السياسي الحاكم منذ 17 سنة.
فالتيار الجديد الذي يضم أكاديميين ومثقفين وعموده الفقري الشباب من جيل مابعد حقبة حكم صدام حسين، يحمل أفكاراً مدنية وليبرالية وتحررية للتخلص من النفوذ الإيراني وسطوة رجال الدين الذين بدأت قبضتهم ترتخي ويفقدون الهالة والقدسية التي أحيطوا بها على مدى سنوات.
بدأ الوسط الشيعي وبالأخص الشباب المتعلم والذي انخرط بقوة في التطور التكنولوجي وعالم التواصل الاجتماعي يشعر بأن أحلام الآباء وربما الأجداد في الحياة الرغيدة اختطف من قبل الأحزاب السياسية، لذا أصبحوا ينظرون بشكل أقل إيجابية تجاه النظام السياسي الحالي، وهو ما تمخض عنه انتفاضة أكتوبر 2019 عندما خرج مئات الآلاف إلى الشوارع في المحافظات ذات الأغلبية الشيعية للتعبير عن استيائهم ورغبتهم في استبدال النظام السياسي الحالي بالكامل.
وبحسب استطلاع أجراه منقذ داغر الخبير في المجموعة المستقلة للأبحاث ومؤسسة غالوب الدولية، والذي استند إلى مقابلات شخصية مع عينة تمثيلية شملت 1200 مقابلة على مستوى البلاد، فظهر أنه “وبعد عامين تقريبًا من اندلاع انتفاضة أكتوبر، لا يزال العراقيون عموماً والشيعة على وجه الخصوص غير راضين عما يجري في بلادهم. ففي كانون الثاني (يناير) 2021، هبطت ثقة الشيعة في الحكومة إلى 27%، في حين بلغت ثقة السنة بالحكومة 46 %، وثقة الأكراد 55%”.
أما الآن ووفقاً لاستطلاع محرار الرأي العام العراقي (IOT ) الذي أجري في نيسان (أبريل) 2021، فقد تراجعت الثقة العامة في الحكومة إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، حيث إن ” 22 % فقط من العراقيين بشكل عام يثقون بالحكومة منهم % فقط من الشيعة فيما اشار الاستطلاع الأخير إلى أن 75% من العراقيين بشكل عام يعتقدون أن العراق يسير في الاتجاه الخاطئ، فإن النسبة بين الشيعة أسوأ حيث وصلت إلى (80%)، ما يعكس أعلى معدل للتشاؤم على الإطلاق بشأن البلاد منذ بدء استطلاعات الرأي في العراق عام 2003.
ووفقًا لنتائج (IOT)، يُظهر الشيعة، بكل المقاييس، معدلات أعلى من عدم الرضا وعدم الثقة والتعاسة مقارنة بالسنة والأكراد! فبينما يشعر 5% من الأكراد و16% من السنة بعدم الأمان في مدنهم، فإن النسبة تقفز إلى 25% بين الشيعة أي أن واحداً من كل 4 من الشيعة يشعر بعدم الأمان في مدينته ويمكن فهم هذا الرقم الصادم بشكل أفضل إذا عرفنا أن 60% من الشيعة يعتقدون أن الجماعات المسلحة غير التابعة للدولة أي الميليشيات الشيعية المنتشرة في مدن جنوب العراق وبغداد أقوى من الحكومة.
ويرى داغر أن “كل المعطيات تشير إلى السيناريو القائل بأن الأشهر القليلة المقبلة ستشهد تسارعاً في زخم الأنواع المختلفة من الاحتجاجات والتعبير عن عدم الرضا، لا سيما بين الشيعة ولهذا السبب كان هناك عدد متزايد من اغتيالات النشطاء السياسيين في الأسابيع القليلة الماضية فهؤلاء النشطاء الذين يمكن أن يلعبوا دورًا مهمًا في تغيير اللعبة السياسية في العراق، استُهدفوا في محاولة يائسة لوقف زخم ما يسمى بانتفاضة تشرين الأول (أكتوبر).
ويسود الاعتقاد في أوساط العراقيين بأن الاستحقاق الانتخابي لم يعد مجدياً كما كانت الآمال تعقد عليه في الدورات الانتخابية السابقة التي أثمرت حكومات حضيت بدعم شعبي شيعي واسع سرعان ما بدأ يتآكل عاماً بعد آخر حتى أفرز نوعاً من التجاهل واللاحماس تجاه اعتماد الانتخابات كآلية للتخلص من المشاكل المتراكمة على مدى السنوات الماضية، إلا في حال اشتد عود التيارات المدنية والليبرالية ودخولها مضمار التنافس الحقيقي والإيمان بالبراغماتية كأساس في العمل السياسي من أجل ضمان موطئ قدم لها في اللعبة السياسية .
وتقف عدة عقبات أمام وجود تيار ثالث مابين الاعتدال والتشدد من بينها التأثيرات الإقليمية وخاصة دور إيران الداعم لحلفائها والرافض لوجود أي قوى سياسية تضعف من نفوذها في العراق.
كما تبرز عقبة أخرى أمام حدوث أي تغيير تتمثل بتغول شبكات المصالح الكبرى وتأثيرها على الواقع السياسي العراقي وإنتاجها للسياسيين الفاسدين الذين بدأوا يتمددون في مؤسسات الدولة ويشكلون لوبيات لتمرير مشاريعهم، ما جعلها علامة مميزة في المشهد السياسي خاصة أن رؤوس الأموال الناجمة عن الفساد الذي ينخر الوزارات ومؤسسات الدولة باتت صعبة ملاحقتها أو تحجيمها أو كبح جماحها، رغم المحاولات التي يبذلها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في هذا المضمار.
ومن المتوقع أن يؤدي الاحتقان الشعبي في ظل عدم تنفيسه في تيار سياسي جديد، فضلاً عن سوء إدارة الدولة وتوزيع الثروة وتنامي دور المليشيات وفوضى السلاح إلى إذكاء شعلة الانتفاضة الشعبية وخاصة في المناطق الشيعية خلال الأسابيع المقبلة، ما سيضعف التحشيد الحاصل من أجل إعادة انعاش الإسلام السياسي مع عدم الرضا الشعبي عن حال السياسة، ما قد يضع النظام السياسي بأكمله في العراق في مأزق كبير.