على رغم مراهنة البعض على إصطفافات طائفية ومذهبية يمكن أن تصدر عنها ، أثبتت دار الفتوى من جديد، من خلال ما إتخذته بالأمس من مواقف وطنية ثابتة وغير مرتبطة بظرف آني، أنها صرح وطني جامع لكل الطوائف، مسلمين ومسيحيين، يلجأون إليه في الملمات والصعاب وعند مفترقات الطرق، وذلك لتصويب البوصلة وتحديد الأولويات الوطنية والترفع عن المهاترات والجدالات العقيمة والتخبطّ بالأزمات، التي لن يكون لها نهاية ما لم تتوحد رؤية اللبنانيين، وبالتالي وضع حدّ للمهاترات والبدع الغريبة عن الأصالة اللبنانية.
وتأتي مواقف دار الفتوى، التي عبّر عنها بيان المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، عشية السينودس المسيحي الذي سيعقد أوائل الشهر المقبل في الفاتيكان برئاسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس للبحث في سبل إنقاذ لبنان مما يتخبط به.وفي قراءة متأنية للمواقف التي وردت في بيان دار الفتوى يتضح أنها قصدت وضع النقاط على حروف الأزمة الحكومية، وربطها بإستمرار “التدهور السريع وبوتيرة شبه يومية تشمل مجالات الحياة الاجتماعية والمالية والاقتصادية والسياسية كافة”.
وقد عبّرت دار الفتوى ببيانها، الذي يمكن وصفه بـ”التاريخي والوطني بإمتياز”، عن هواجس جميع اللبنانيين، مسلمين ومسيحيين، بعدما أصبح الهمّ المعيشي القاسم المشترك بينهم جميعًا، وعابرًا للطوائف والمناطق. فالأزمات التي يعيشها المواطن هي واحدة في طرابلس وصيدا كما هي في جونيه وفي بعلبك والهرمل وعاليه وصور والنبطية.فجميع اللبنانيين، إلى أي فئة إنتموا يتكلمّون لغة واحدة، وهذا ما ترجمه بيان دار الفتوى، حين إتهم المتحكمين برقاب المواطنين أولي الأمر بـ”اللامبالاة وعدم الاكتراث والتخبط العشوائي” الذي يتسم به سلوكهم وتصرفاتهم، وكأنها بذلك تتكلم بإسم جميع اللبنانيين من دون إستثناء، الذين باتوا يعرفون كيف يميزون بين الخيط الأبيض والخيط الأسود، بعدما أصبحت معروفة هوية ربان السفينة المتهالكة والتي تواجه عاصفة هوجاء في بحر هائج وبحارتها المنشغلين عن مصير السفينة و”ينصرفون إلى الجدال العقيم حول “جنس الوزراء” وتبعياتهم”.وتأكيدًا على مواقفها السابقة والثابتة والراسخة أكدت دار الفتوى “أن أي سعي الى إعراف جديدة في ما يتعلق بالدستور أو باتفاق الطائف أمر لا يمكن القبول به تحت أي حجة من الحجج”، وحمّلت مسؤولية التأخير في التأليف الى “من يحاول ان يبتدع طرقا ووسائل وأساليب تلغي مضمون وثيقة الوفاق الوطني، التي هي مكان إجماع القيادات اللبنانية الحريصة على استقلال لبنان ووحدته وسيادته وعروبته”.وأكد بيان دار جميع اللبنانيين أن “لبنان وطن العيش المشترك، وطن الغد الأفضل، يتحول بفضل هذه العقلية الإنغلاقية المدمرة الى عصر الجاهلية حيث الشعار “لنا الصدر دون العالمين أو القبر. ولأن المسؤولين على السلطة ليسوا من أهل الصدر، ولا يستحقونه كما تثبت التجارب والوقائع المأسوية، فإنهم يحفرون قبورا جماعية بأيديهم تضيق بالعجز والفشل والتقهقر الذي ولد على أيديهم … لقد حولوا لبنان المزدهر الى دولة فاشلة، وحولوا الاعتزاز اللبناني الى استعطاء، وحولوا الشعور بالكرامة الوطنية الى إذلال أمام محطات الوقود والصيدليات والأفران. اعدموا الفقراء وفقروا الميسورين، وهجروا المقتدرين، وهم يعتقدون انهم يحسنون صنعا”.وفي الخلاصة وضعت دار الفتوى تاريخها النضالي والوطني في ما خلصت إليه حين قالت إن “لبنان الوطن والعيش المشترك هو وطننا النهائي، وهو أمانة في أعناقنا جميعا. انه باق والفاسدون الى زوال”.وبذلك تكون هذه الدار الوطنية قد سطرّت مرّة جديدة ما كتب بأحرف من ذهب في سجل تاريخ العيش المشترك، حين إرتضى اللبنانيون مختارين أن يعيشوا معًا تحت سقف واحد يظللهم دستور واحد وعلم واحد وهدف واحد.بهذه الخلاصة رسمت دار الفتوى المسار الطبيعي للأمور ووضعت حدّا للتأويلات والبدع التي تتناقض والعيش الواحد، وقالت للجميع أن لا عودة بعقارب الساعة إلى الوراء.