مع كل طلعة شمس يتفاجأ اللبنانيون بتصريح لمسؤول من هنا ووزير من هناك، وكأن ما ينزل بهم من مصائب لا يكفيهم.
آخر هذه المواقف غير المسؤولة ما طالعنا به وزير الطاقة ريمون غجر، وهو واحد من الوزراء الذين إعُتبروا برتبة “مستشار” عندما كانت توصف حكومة حسان دياب بـ”حكومة مستشارين”، وذلك للتدليل على أنها ليست “سيدة نفسها”، بل تنتظر أن يُملى عليها ما يجب فعله، في حال أقدمت على أي فعل، ولم تُقدم.
فتصريح الوزير غجر ليس من عندياته، وهو كشف علانية، وربما عن قلة خبرة، ما يفكرّ به “مَنْ اختاروه” في السرّ وداخل الجدران الأربعة، إذ يتحدّثون عن ضرورة رفع الدعم عن الخبز والدواء والمحروقات، من دون تأمين بدائل من شأنها تخفيف الأعباء المعيشية عن الطبقة الفقيرة بعدما إضمحلت الطبقة الوسطى وإنضمّت إلى من هم تحت خط الفقر. ما يهمّنا من النظرية “الغجرية”، حيث إحتّل الوزير غجر المرتبة الأولى في التعليقات على وسائل التواصل الإجتماعي، ليس دعوته الناس إلى التفتيش عن وسيلة أخرى غير السيارات لتنقلاتهم اليومية، بل حديثه عن إمكانية وصول سعر صفيحة البنزين إلى حدود الـ 200 ألف ليرة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المازوت والغاز.
فإذا ما رُفع الدعم عن المحروقات، وهو أمر وارد في كل الأحوال، فإن الدواء والطحين سيلحقان به عاجلًا أم آجلًا، فإن ما كان يكفي لتأمين الحاجات الضرورية من مواد غذائية وسلع إستهلاكية لمدّة أسبوع مثلًا لن يعود صالحًا لتأمين حاجة يوم واحد. وفي هذا الوقت لا يزال المسؤولون يبحثون عن الوسائل التي تمكّنهم من تطبيق عملي للبطاقة التمويلية وتزويد ما يقارب 750 ألف عائلة بها، مع العلم أن ما يُحكى عن المبالغ المطلوبة لتغطية هذه البطاقة غير متوافرة بعدما وصل إحتياطي المصرف المركزي إلى حدود الخطّ الأحمر. فحتى ولو تأمّنت التغطية لهذه البطاقة فإن تفلت أسعار السلع الإستهلاكية من عقالها وعدم توافر الإرادة لدى أركان الدولة لممارسة أقصى درجات المراقبة على السوبرماركات والمحلات التجارية، فإن قيمة ما تؤمّنه هذه البطاقة ستتلاشى وستصبح من غير جدوى قياسًا إلى السرعة الصاروخية التصاعدية لأسعار السلع الإستهلاكية الضرورية. المهمّ في الموضوع أن سعر صفيحة البنزين ستصبح بـ 200 ألف ليرة. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن المواطن العادي، وقد أصبح معظمنا بفضل السياسات “الحكيمة والرشيدة” مواطنين من الدرجة العادية، لن يستطيع أن يتنقّل من بيته إلى عمله بسيارته الخاصة، بل سيضطّر إلى أن يستقل سيارة أجرة، وقد تصبح التعرفة بحدود العشرين ألف ليرة ذهابًا ومثلها إيابًا، وذلك بغياب النقل المشترك المنظّم كما هي الحال حتى في الدول غير المتقدمة. وبلغة الأرقام فإن الموظف الذي عليه أن ينتقل بأكثر من سرفيس للوصول إلى مركز عمله يحتاج إلى مبلغ مليون و600 ألف ليرة شهريًا بدل نقل وإنتقال، مع العلم أن هذا البدل لا يزال حتى الساعة ثمانية الآف ليرة لليوم الواحد. وبلغة الأرقام أيضًا يُفترض مع هذا الواقع المستجدّ والمرير أن يكون راتب الموظف العادي أكثر من 7 ملايين ليرة في الشهر، أي ما يقارب الـ 500 دولار، لكي يستطيع أن يعيش عيشة أقل من عادية. وهذا الأمر شبه مستحيل، سواء بالنسبة إلى القطاع العام وحتى القطاع الخاص، خصوصًا أن الدولة هي شبه مفلسة، فيما القطاع الخاص يعاني ما يعانيه وهو يتجه إما إلى إقفال مؤسساته ومعامله وشركاته وإما إلى تقليل عدد موظفيه إلى الحدود الدنيا. ما كشفه الوزير غجر سيعلنه غدًا أو بعده وزير الصحة بالنسبة إلى رفع الدعم عن الدواء، وكذلك وزير الإقتصاد بالنسبة إلى الطحين. فإذا كانت هذه هي “طحنة”المسؤولين في الدولة ف”قمح” سيأكل المواطنون.