كتب غسان ريفي في “سفير الشمال”: لا مشهد يتقدم على مشهد الفشل السياسي في لبنان، فأمام تشييع الضحايا: فاطمة قبيسي وبناتها الأربع: زهراء، آية، تيا وليا، وألم الفراق الذي فطرّ قلب والدهن عماد حويلي الذي غادر لبنان مكرها الى المجاهل الأفريقية هربا من الأزمة، وعاد على هول الفاجعة ليدفن فلذات كبده، تصغر السياسة برجالاتها وصراعاتها وتفاصيلها ومكاسبها وحصصها، وتسقط معها الشروط التي بدأ اللبنانيون ينظرون الى أصحابها كوحوش لديهم مخالب يريدون أن يفترسوا بها البلد بحجره وبشره.
في البلاد المتحضرة التي يحكمها مسؤولون محترمون، تُسخّر السياسة لخدمة الشعب وتحقيق أمنه وإستقراره ورفاهيته، بينما في لبنان حيث المسؤولون غير المحترمين بمعظمهم مع استثناء قلة قليلة، تُستخدم السياسة للقتل والتجويع والافقار والسلب والنهب والاحتكار، في ظل تسابق محموم لمصاصي دماء اللبنانيين على ما تبقى فتات الدولة التي أسقطها فشلهم وجشعهم الى الدرك الأسفل من الانهيار.
سيكتب التاريخ الكثير عن الرئيس ميشال عون الذي جاع اللبنانيون في عهده بفعل الدولار الذي ضرب أرقاما فلكية بزيادة ما نسبته ألف بالمئة وأكثر على سعره الرسمي، ومات المرضى بسبب فقدان الأدوية وغياب المستلزمات الطبية للاستشفاء، وإفتقد المواطنون الى المحروقات فإستعادوا مشاهد الوقوف بطوابير الذل التي تخترقها “الزعرنات” وأعمال التشبيح وإطلاق النار على أفضلية الدور بما يعيد أجواء الحرب الأهلية التي يعززها الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي “الرسمي والاشتراك” بفعل فقدان مادة المازوت، وعودة الناس الى الشموع والقناديل، فضلا عن الفوضى العارمة في الشارع الناتجة من البطالة والفقر والجوع واليأس التي تجعل اللبنانيين أسرى “جهنم” التي دشنها الرئيس عون قبل أشهر قليلة، مخيرا اللبنانيين بينها وبين الهجرة، ثم يخرج على اللبنانيين مؤخرا ليقول أنه “لم ييأس بعد” بينما شعب لبنان تجاوز اليأس بأشواط.
يضع الرئيس عون شعبه دائما بين السيء والأسوا بفعل إصراره على تعقيد الأمور بدل السعي الى حلها، فهو بدل أن يكون الحكم بين اللبنانيين جعل نفسه طرفا ما أفقده صفة الرئيس الجامع، وبدل أن يسارع الى تشكيل حكومة تنقذ عهده يتفنن في إختراع العراقيل التي تحمل توقيع جبران باسيل، وبدل أن يتعاون مع الرئيس المكلف على تشكيل الحكومة يفتش في الدستور عن مادة تجيز له سحب التكليف منه، وبدل أن يحافظ على هذا الدستور ويحرص على تطبيقه بما يحمي الاستقرار يعطي الضوء الاخضر لبعض من يدعون “الاجتهاد” لفرض أعراف جديدة تترجم توترات على كل صعيد.
وعلى قاعدة “الناس بالناس والقطة بالنفاس” يتصرف جبران باسيل، ففي الوقت الذي يمضي فيه اللبنانيون ساعات نهارهم لتعبئة نصف صفيحة من البنزين، يحدثهم عن الميثاقية، وفي الوقت الذي يحمل فيه المسنون أمراضهم المزمنة وأوجاعهم الى الصيدليات بحثا عن أدوية مفقودة يبشرهم بالحفاظ على وحدة المعايير، وفي الوقت الذي تموت فيه الناس على أبواب المستشفيات يتحفهم بإصراره على تكون تسمية الوزيرين المسيحيين من حق رئيس الجمهورية، وفي الوقت الذي يلعن فيه المواطنون العتمة يحدثهم عن صموده وبطولاته السياسية، وفي الوقت الذي يكاد فيه اللبنانيون يلفظون أنفاسهم الأخيرة يُنظّر عليهم بالدفاع عن حقوق المسيحيين، وفي الوقت الذي تواجه فيه البلاد خطر الزوال يفتح معركة وصوله الى رئاسة الجمهورية!..
إنفصال باسيل عن الواقع، وحالة الانفصام الواضحة التي يعيشها، يقابلها الرئيس المكلف سعد الحريري بلامبالاة غير مبررة، في وقت ينتظر فيه اللبنانيون أن يكون الحريري “أم الصبي” ليس بتنازلات، وإنما بإصرار على التأليف، وصولا الى الاحراج ووضع النقاط على الحروف لمعرفة من هو المعطل الحقيقي لتشكيل الحكومة الذي لم يعد خافيا على أحد، لا من التيارات السياسية التي بدأت تحمل المسؤولية الى باسيل والعهد العوني، ولا من اللبنانيين الذين كشفوا كثيرا من زيف الادعاءات السياسية، ولا من المعذبين الذين لم يعودوا يمتلكون سوى الدعاء على من أوصلهم الى هذه المأساة.
بات واضحا أن الأمور تتجه الى مزيد من التأزم والتوتر في الشارع الذي بات أسير شريعة غاب بفعل إستمرار التعطيل، لذلك فإن كل نقطة دم ستسيل، وكل إنتحار جديد قد يحصل، وكل قلب يتألم على هجرة من يحب، وكل مريض وفقير وجائع ومعدم وعاطل عن العمل هم في رقبتكم الى أن تشكلوا الحكومة.. أما الضحايا فاطمة وبناتها زهراء وآية وتيا وليا اللاتي عجن الحديد أجسادهن الطرية في ذاك الحادث المشؤوم الناتج من أزمة البنزين، فهن سيُخبرن الله بما تفعلون!..