لم يسبق أن عاش اللبنانيون ما يعيشونه في مثل هذه الأيام من حالات مزرية على كل المستويات، وذلك نتيجة غياب المسؤولية وتلهّي من يعتبرون أنفسهم مسؤولين، وهم مسؤولون بالإسم فقط، بامور هامشية، والإكتفاء بـ”محاربة طواحين الهواء”، والسعي إلى تأمين الوراثة السياسية للذين سيأتون من بعدهم ومن صِلبهم، من دون أن يقلقهم مصير الوطن الواقف على حافة الهاوية، إن لم نقل إنه أصبح في قعر هذه الهاوية السحيقة.
ما يجري في الداخل اللبناني مقلق وخطير. إنه الإنزلاق المخيف نحو المجهول، وإن كان هذا المجهول معلومًا من قبل من يتلقون التقارير الأمنية الواردة إليهم من الخارج، وفيها أكثر من تحذير، وأكثر من نصيحة بضرورة إبقاء الأعين مفتوحة، لأن ما يُخطّط لهذا البلد الرازح تحت هذا الكمّ الهائل من المشاكل قد يفوق قدرة قواه العسكرية، التي لا تزال حتى هذه الساعة قادرة على الإمساك بناصية الأمن والحفاظ على الإستقرار، على رغم الصعوبات الكثيرة التي تعترضها، والتي قد تحول دون تمكّنها من القيام بما هو مطلوب منها.
في المعلومات الديبلوماسية أن العالم المهتمّ بوضع لبنان، ومن بينهم الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا والمملكة العربية السعودية، لن يترك هذا البلد المغلوب على أمره ينهار كليًّا، بل سيكون هناك تحرّك سريع بدأت ملامحه تظهر، وذلك من خلال السينودس الذي عُقد في الفاتيكان وإهتمام قداسة البابا فرنسيس شخصيًا بوضع لبنان عبر مروحة من الإتصالات الخارجية المتوازية مع تشديده على ضرورة قيام اللبنانيين بما يلزم من خطوات إنقاذية سريعة لوقف الإنهيار، وعدم ترك بلدهم لقمة سائغة في أفواه المتربصين به شرًّا.
عندما طرح البطريرك الماروني فكرة قيام مؤتمر دولي لمساعدة لبنان على تخطّي أزماته حاول البعض تفسير هذه الدعوة على أنها محاولة لتدويل الأزمة اللبنانية، وذهب البعض الآخر إلى إعتبار أن تحرّك بكركي يهدف إلى التدويل ومن شأن ذلك جرّ لبنان إلى حرب أهلية جديدة، وأن أي تدّخل دولي تجاه لبنان هو مشروع حرب.
قد يُجاز لأي كان التعبير عن رأيه بكل حرية، وهذه هي ميزة لبنان، التي لا يزال اللبنانيون يستميتون من أجل الحفاظ عليها، وعلى هذه الخصوصية التي تميزّه عن سائر دول المنطقة. ولكن ما لا يجوز إطلاقًا، لا في المنطق ولا في القانون، أن يفرض هذا البعض على جميع اللبنانيين خياراته التي يسمّيها إستراتيجية، ولا يمكن بالتالي جرّ لبنان إلى خارج محيطه الطبيعي.
فظاهرة تظهير العلاقة بين بكركي والمملكة العربية السعودية عبر التاريخ، وإن أزعجت البعض، هي محاولة ستليها محاولات أخرى لإعادة تصويب البوصلة، وإعادة التموضع الطبيعي لعلاقة لبنان بأشقائه العرب، حيث يعمل أكثر من نصف لبناني في الخليج العربي، وهم لا يزالون يشكّلون الخزان الإحتياطي لحوالي نصف مليون عائلة لبنانية لتأمين الإستمرارية والصمود في وجه العواصف المالية والإقتصادية الخانقة.
وما التحرك الأميركي والفرنسي والسعودي الأخير سوى محاولة من بين محاولات كثيرة لمنع حصول الإرتطام الكبير، وذلك من خلال تعزيز قدرات القوى الأمنية وعلى رأسها الجيش وتمكينه من الإستمرار بالقيام بمهامه الأمنية والإنسانية، والوقوف سدًّا منيعًا في وجه أي محاولة لجرّ لبنان إلى حيث لا يريد معظم شعبه، وإلى حيث المحاور الساخنة وربط مصيره بمصير المنطقة، الذي لا يزال حتى الساعة غير واضح المعالم في ظل صراع “الفيلة”.