يحلو لبعض السياسيّين أن يعبّر عن “حصيلة” يوم الرابع من آب، الذكرى السنوية الأولى لتفجير مرفأ بيروت المروّع، وما رافقها من تحرّكات واحتجاجات في العديد من المناطق، بكلمتين لا ثالث لهما: “قطوع ومرق”، في إشارة إلى أنّ ما كانت تتوجّس منه السلطة السياسية لم يحدث، والإيحاء بأنّ ما بعد 4 آب هو كما قبله، خلافًا للشعارات التي رُفِعت.
في الأيام القليلة الماضية، كانت “مخاوف” السلطة من “الغضب الشعبي” الذي قد تفجّره الذكرى أكثر من واضح. حاولت أن تنتج، في غضون أيام قليلة، الحكومة التي عجزت عن استيلادها في عام كامل، وإن آثرت في النهاية القبول بالأمر الواقع، منعًا لـ”التضحية” بـ”الحصّة الدّسِمة” التي تمنّي النفس بها، أو ربما “حصّة الطائفة”، إن جاز التعبير.بلغ “التوجّس” من هذا اليوم “ذروته”، مع “الاستنفار الأمني” الذي رُصِد عشيّة الذكرى، حتى أنّ هناك من رصد تعاملاً “استباقيًا” من قبل القوى الأمنية مع الحدث، كما كانت تتعامل مع المظاهرة في مرحلة “انتفاضة 17 تشرين” وما أعقبها، لدرجة الطلب من المتظاهرين الحفاظ على “السلميّة”، قبل أن تبدأ بوادر أي “شغب”، أو أن تبدأ التحرّكات أساسًا.
“الغضب الساطع”لم يمنع كلّ ذلك من إظهار الغضب الشعبي بوضوح، غضب انطلق من العدالة المغيّبة والمنقوصة بعد عام كامل على “جريمة” تفجير مرفأ بيروت، الذي حُفِر في وجدان جميع اللبنانيين، لكنّه امتدّ ليشمل الوضع “الكارثيّ” الذي تشهده البلاد على كلّ المستويات، في ظلّ جمود سياسيّ، وأزمة اقتصادية، وانفجار اجتماعيّ، وما إلى ذلك. حضرت كلّ هذه العناوين في تحرّكات أهالي ضحايا انفجار المرفأ والمتضامنين معهم، الذين أبدوا صراحةً “سخطهم” على الطبقة السياسيّة المتعالية على جراحهم، والتي لم تقدّم حتى اليوم إجاباتٍ شافية ووافية حول أسباب الانفجار وحيثيّاته، فضلاً عن خلفيّاته، ما سمح بتمدّد “التكهّنات”، التي ترجِمت أمس بكلامٍ عالي السقف، واتهامات موجَّهة، “ضيّق” معها البعض حدود المسؤوليّة، لتشمل فريقًا سياسيًا محدَّدًا.وبمُعزَلٍ عن كلّ ما صدحت به حناجر المتظاهرين الغاضبين، الذين سعوا لإيصال رسالة “حازمة” إلى السلطة، مؤكّدين أنّ “كل يوم هو 4 آب”، بل إنّ وتيرة التحرّكات ستتغيّر من الآن فصاعدًا، “لتفاجئ” أركان المنظومة السياسية، بقي مطلب “رفع الحصانات” فوق كلّ الاعتبارات، لا سيّما وأنّ طلبات المحقّق العدلي بهذا الخصوص لا تزال “مجمَّدة” منذ أسابيع، رغم كلّ التصريحات العلنيّة “الداعمة” له لفظيًا.هل “انكفأ” السياسيّون؟وباستثناء حزبي”الكتائب” و”القوات” اللذين اختارا “الانضمام” إلى المتظاهرين، ارتأت معظم الأحزاب والقوى السياسية التراجع “خطوة”، والانسحاب “التكتيكي”، فغابت عن المشهد ولو ليوم واحد، تاركةً المنبر للأهالي والمتظاهرين، “ليفشّوا خلقهم”، بعيدًا عن أيّ استفزاز أو نكء للجراح، قد لا يكون الوقت ملائمًا له.لعلّ هذا “التكتيك” بالتحديد هو الذي جعل “القطوع يمرّ”، بحسب ما يرى بعض المتابعين، بعدما كان مقدَّرًا أن تتوسّع التحركات وتتمدّد، علمًا أنّ هناك من يدعو إلى انتظار مستجدّات الأيام المقبلة، لأنّ هناك بين المتظاهرين من اعتبر أنّ 4 آب ليس سوى البداية، وأنّ احترام “حرمة” هذا اليوم، وما له من “رمزيّة”، تطلّب عدم توسيع “البيكار” كثيرًا، منعًا لتحميل الأهالي كما الضحايا ما لا طاقة لهم على تحمّله.ولعلّ الأنظار ستكون، انطلاقًا من انعكاسات مشهد الرابع من آب، مشدودة على اللقاء الخامس بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلَّف نجيب ميقاتي، فإما يظهر أن “الرسالة وصلت”، فتظهر بوادر “الدخان الأبيض” بالحدّ الأدنى، أم يقع “الصدام”، ويثبت مرّة أخرى، أنّ هناك من لا يزال متمسّكًا بشروطه الخاصة، ولو على حساب المصلحة العامة، رافضًا الإصغاء إلى صوت الناس المدوّي والصارخ.قد لا تكون كلّ التفاصيل مهمّة. فأن تكون تحرّكات الرابع من آب منظّمة أم عفوية، وأن تكون محدودة أم واسعة، وأن تكون انتهت في أرضها أم مهّدت لكرة ثلج ستكبر تدريجيًا، كلّها تفاصيل لا تغني ولا تسمن من جوع. الأساس يبقى أنّ “حرقة” أهالي الضحايا مستمرّة، هم الذين يزداد “وجعهم” مع كلّ يوم، ولا يطلبون سوى “إحقاق الحقّ”، وهم يدركون أنّ شيئًا لن يعوّض ما خسروه، في لحظة إهمالٍ وفساد، وربما غدر وأكثر من ذلك…