وفق قاعدة “لا غالب ولا مغلوب” الشهيرة لبنانيًا، جاءت “تسوية” أزمة المحروقات كما رُوّج لها. حصل رئيس الجمهورية ميشال عون على مُراده، فأرجئ قرار “رفع الدعم” بالكامل، حتى نهاية أيلول المقبل، وحصل حاكم مصرف لبنان على مُراده، فلم يُمَسّ بالاحتياطيّ، على أن تتحمّل الدولة الفارق بين سعر الصرف والسعر المدعوم، من ميزانيّتها!.
هي “تسوية مؤقتة” خلص إليها الاجتماع الطارئ الذي عقد في قصر بعبدا عصر السبت بحضور رئيس الجمهورية وحاكم مصرف لبنان، إضافة إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، وبمشاركة وزير الطاقة ريمون غجر “عن بُعد”، اجتماع سرعان ما استتبِع بجدول جديد سجّل ارتفاعًا حادًا في أسعار المحروقات، التي “قفزت” دفعة واحدة بنسبة 66 في المئة.لكنّ هذه “التسوية” صُوّرت “انتصارًا”، أو “إنجازًا”، وفق ما أوحت به مثلاً كلمة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى اللبنانيين مساء السبت، حيث أكّد أنّه لم يترك “وسيلة” لمواجهة قرار “رفع الدعم” إلا واستخدمها، مجدّدًا القول إنّ إقرار رفع الدعم من دون إصدار البطاقة التمويلية الموعودة كان بمن شأنه أن يؤدّي إلى “انفجار اجتماعي” باتت بوادره أكثر من واضحة.
“حلول ترقيعيّة”؟قد يكون صحيحًا أنّ “رفع الدعم” بالكامل، عبر تحرير الأسعار، وفق ما يطالب بعض السياسيين، يفوق قدرات اللبنانيين، ولا سيّما أنه سينعكس تلقائيًا على كلّ أسعار المواد الاستهلاكية والخدمات الأساسيّة، والتي “تضخّمت” بما يكفي خلال الفترة الأخيرة، علمًا أنّ أحدًا لا يستطيع “التكهّن” بردّة فعل الناس الذين لم يعودوا قادرين على الحصول على “قوت يومهم”، إن جاز التعبير.لكنّ الأكيد أنّ هذا “السيناريو” آتٍ، عاجلاً أم آجلاً، وفق ما يؤكّد العارفون، لأنّه “شرّ لا بدّ منه”، ولأنّ كلّ ما عداه من حلول “ترقيعيّة”، أو “مسكّنات” كما يصفها البعض، لن يغيّر شيئًا على أرض الواقع، علمًا أنّ ما يُحكى عن “تعويض” تمثّله البطاقة التمويلية قد لا يغني ويسمن من جوع، لا سيّما إذا ما صحّت “الشروط” المفروضة عليها، والتي تجعل المستفيدين منها “قلّة”، فضلاً عن كونها أقرب إلى “الرشوة الانتخابية”.ولعلّ ما لم يكن “مبشّرًا” أبدًا في هذا الإطار، يتمثّل بتأكيد المعنيّين، وخصوصًا أصحاب محطات المحروقات، أنّ “التسوية” التي تمّ التوصّل عليها لن تؤدي إلى “ارتياح” في الأسواق، فـ”طوابير الذلّ” ستبقى على حالها، وهي التي تحوّل إلى “كابوس مؤرق” للبنانيّين الأسبوع الماضي، كما أنّ “السوق السوداء” ستواصل انتعاشها، في وقتٍ كان لافتًا أنّها بدأت “تُنظَم” حتى أنّ جدول أسعارٍ بها بدأ يتداول على نطاق واسع في الساعات الأخيرة.تغيير في “التكتيك”يؤكّد المعنيّون أنّ الحلّ الوحيد لأزمة المحروقات قد لا يكون سوى تغيير “التكتيك”، من دعم السلعة كما هو حاصل حاليًا إلى دعم المواطن بصورة جدّية، لا على طريقة “شروط” البطاقة التمويلية، التي “تحصر” المستفيدين منها، في حين أنّ “المتضرّرين” من رفع الأسعار يشكّلون شريحة واسعة، بينهم المنتمون إلى ما كانت تُعرَف سابقًا بـ”الطبقة الوسطى”، وأصبحوا يشكّلون اليوم ما يُصطلح على تسميته بـ”الفقراء الجُدُد”.يقول هؤلاء إنّ “تحرير الأسعار” بالكامل وحده من شأنه رسم “خريطة طريق” الحلّ، وإعادة العمل في محطات المحروقات إلى سابق عهده، وهو القادر على وضع حدّ لطوابير الذلّ، وللسوق السوداء، وللتهريب، وكل ما يمتّ إلى ذلك بصلة، علمًا أنّ ما يحصل حاليًا من “تقنين” في فتح محطات المحروقات يعود كذلك إلى “تحكّم” الدولة عبر مصرف لبنان بالكميات المستورَدة، ما يجعل المحطّات مضطرة لـ”إدارة” المخزون بالتي هي أحسن، ما يتسبّب بالإشكالات التي لا تنتهي.انطلاقًا من كلّ ما سبق، يبقى الأكيد أنّ السياسات “الترقيعيّة” التي لا تزال الدولة تتعامل بها ليست الحلّ المنشود، وإن كانت تصرّ على أنّها مجرّد “استراتيجية مرحلية” لن تدوم أكثر من شهر، ريثما “تنضج” البدائل التي ستوفّرها للبنانيين متى أقرّت رفع الدعم، لكنّها “استراتيجيات” يقول الخبراء إنّها تشبه “مقاربة” الدولة لكلّ الملفات على مدى أعوام طويلة، والتي كان المبدأ الحاكم بها واحدًا: التأجيل ثمّ التأجيل ثمّ التأجيل.صحيح أنّ صيغة “لا غالب ولا مغلوب” مُنِحت لتسوية المحروقات المؤقتة، إلا أنّ هناك من يعتبر أنّ هذا التوصيف غير صحيح ولا دقيق، لأنّ هناك “مغلوبًا” لطالما صُرِف النظر عنه في كلّ التسويات الشبيهة، ألا وهو المواطن، الذي “سئم” من محاصصة المسؤولين وتقاسم المغانم فيما بينهم، وتعب من “الذلّ” الذي شهد “أبشع” مشاهده على محطات المحروقات الأسبوع الماضي، والذي يبدو مرشّحًا للاستمرار لشهر آخر على الأقلّ!.