ليس صحيحاً أن اتفاق الطائف هو الذي يشلّ وحده قدرات الرئاسة الأولى وقراراتها وصلاحياتها، ولا هو كان أيضاً المخرج المثالي والأوحد للتركيبة اللبنانية المتشابكة والمعقدة.
لنتفق أولاً أن هذا الاتفاق الذي يتذرع به العهد وأنصاره لتبرير الفشل في إدارة شؤون البلاد، جاء نتيجة موازين القوى التي أعقبت “حرب التحرير” والتي جاءت لمصلحة سوريا وحلفائها في لبنان.
المنتصر هو الذي يضع شروط السلام أو الاستسلام لا فرق وهذا ما حدث.
لو أدى العماد ميشال عون المهمة المنوطة به أي تأمين انتخاب رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس أمين الجميل لما كان الطائف ومندرجاته المبهمة، أو لما جاء وفق الشروط والظروف التي جاء بها، أو لو فتح طريق القصر للرئيس رينيه معوض ربما تمكنا من تعديل بعضٍ من بنود الاتفاق او ربما من تنفيذ بعضها الآخر، وهو الذي اختير مدعوما من العالمين العربي والغربي ومحتفظاً بمسافة لا بأس بها عن النظام الحاكم في دمشق والآخر الحاكم في إيران، وهي المسافة التي أدت إلى اغتياله…
لقد حاول الرئيس معوض أن يوظف القوة العسكرية التي كانت في حوزة الجيش والقوات اللبنانية في حملة جانبية ترغم صانعي القرار على إعادة بعض الصلاحيات الأساسية الى الرئاسة الأولى، لكن الإجابات التي كانت تأتي من “قصر الشعب” تقول: “انا من جاء بالدستور الجدبد ومن يجيء به يستحق الحكم”.
لست هنا في وارد النبش في الملفات والثغرات والمكابرات والمغامرات والطموحات، بل في وارد الاضاءة على أخطاء ارتكبها من تولى أمور المسيحيين بعد مرحلة بشير الجميل ومنهم سمير جعجع عندما اختار الفوضى بدلاً من مخايل الضاهر مفسحاً في المجال أمام فراغٍ استفاد منه ميشال عون وتسلل منه السوريون نحو الدوائر الأميركية ليتحولا ثنائياً منسجماً على قاعدة: اعطونا لبنان وخذوا محوراً ممانعاً يملك سلاحاً لا يستعمله لا ضد إسرائيل ولا ضد المصالح الأميركية.
انتقل ميشال عون إلى المنفى ودخل سمير جعجع السجن واعتكف المسيحيون في شكل غير مدروس وغير مسؤول، فتفرّدت سوريا بقرارات البلد ومواردها ومساراتها وخياراتها وقياداتها وحولته إلى محمية سورية في مكان ومحافظة سورية في مكان آخر.
كان المسيحيون أكثر اهتماماً بعودة عون وتحرير جعجع من اي شيء آخر. وهو أمر لم يتحقق إلا بعد اغتيال رفيق الحريري.
وهنا لا بد من سؤال: ماذا فعل المسيحيون بعد “ثورة الأرز”؟
تحالف عون مع “حزب الله” وفكّ له عزلته وتقرب من المحور السوري- الإيراني، وتحالف جعجع مع تيار “المستقبل” وشد له عصبه وتقرب من المحور السني – الخليجي، وخرج أمين الجميل من 14 آذار واتخذ منحى آخر لا يبايع عون ولا يناصر جعجع. وعاد الموارنة إلى نقطة الصفر، فلا عون يستطيع الوصول إلى الرئاسة من دون “حزب الله” ولا جعجع يستطيع قيادة المسيحيين مع وجود عون في الحياة السياسية، ولا يستطيع الجميل التحول إلى خيار ثالث مع وجود عون وجعحع معاً.
وهكذا دخل عون القصر الرئاسي محكوماً بخيارات حددها “حزب الله” على المستويات السياسية والإقليمية والاستراتيجية والأمنية. لقد كان الامتنان لدى عون أقوى من الإقدام وكانت خطيئة سمير جعجع أقوى من توبته المتأخرة، وكانت إطلالة الجميل أضعف من حيثيات الواقع، وكانت صرخة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي أضعف من صوت السلاح في معركة غير متكافئة على كل المستويات.
واليوم ها هم المسيحيون، بعضهم هاجر وبعضهم يريد أن يهاجر وبعضهم باق لأنه لا يستطيع أن يهاجر.
عون طاعن في السن ومدين لـ”حزب الله” بلقب الرئاسة، ويحمل على أكتافه أحمالاً لا يقوى على حملها بلا دعم من المجتمع المسيحي أولاً، والمجتمع العربي ثانياً، والمجتمع الغربي ثالثاً.
جعجع عالق في الوسط، بين فريق مسيحي لا يريده هو “التيار الوطني الحر” و”تيار المردة” وحزب “الكتائب” وبعض المستقلين، وفريق إسلامي جامع يضم الشيعة والسنة معاً، ويعاني سبحة خيارات وإطلالات لم تنجح في تحويله خياراً أوحد على مستوى الرئاسة ولا خياراً أول على مستوى الشعبية المسيحية.
والسؤال هنا: لماذا لا يتنحى عون ما دام غير قادر على التغيير والتصويب؟ التنحي ليس عيباً ولا عاراً ولا عملاً فريداً لم يقم به أحد من قبل؟ ولماذا لا يعترف جعجع بأنه فقد تحالفاته الأساسية لأكثر من سبب، وأن الأمر بات يتطلب رؤية جديدة ونهجاً جديداً يضعانه أمام واحد من خيارين: إما العودة إلى نزعة الثورة، وهذا غير ممكن حاليا، وأما العمل لتوفير غطاء مسيحي للرئيس عون وهذا غير وارد مطلقاً؟
فالأول لا يريد أن ينتهي في قصر بعيداً كما انتهى في المرة الأولى أي مهزوماً، والثاني لا يريد أن يدافع عن شيء لا يقبض ثمنه كما أصابه بعد حرب الإلغاء اي مغبوناً.
وإزاء هذين الواقعين، يتمادى “حزب الله” في غيه وتساوم أميركا على هموم الناس. الأول يملك فرصة الانقضاض على البلاد، والثانية تدرك أن حربها على إيران لا يمكن أن تخاض بالواسطة، فإما تقاتل وحدها وإما ترمي المنطقة في حضن إيران.
نعم، لقد أصاب عون عندما تحدث عن جهنم. لكنه لم يصب عندما ظن أن الصمود العبثي في معركة خاسرة، هو نوع من الانتحار الذي لا يصيب شخصاً بمفرده بل يقضي على شعب بكامله ويقتلع وطناً من جذوره.
الهزيمة ليست دائماً نقطة سوداء في التاريخ، فهي في بعض المرات نقطة بيضاء ناصعة خصوصاً لو جاءت بعد معركة تحمل فيها سيفك لا خوفك، والاعتراف بوراثة وهمية ليست خطيئة مميتة، لقد أثبتت الأحداث والتجارب، أن بشير الجميل في وجدان المسيحيين كان حيثية استثنائية لا تتكرر، ويبقى على من جاء بعده أن يمارس السياسة على قياسه وليس على قياس الآخرين…
اليوم، وبعد مرور ثلاثين عاماً على اتفاق الطائف يمكن القول: ما أشبه اليوم بالبارحة… كانوا أربعة موارنة أقوياء التقوا في زمن واحد وحول وليمة واحدة: عون الساعي الى السلطة عبر الجيش، الجميل الساعي الى البقاء فيها عبر الفراغ والتمديد، حبيقة الساعي إليها عبر التفاهم مع دمشق، وجعجع الطامح اليها عبر القوة حتى اذا سنحت الفرصة صار أحدهم رئيساً او صنع رئيساً وأسقط آخر.
لم يكن هؤلاء يدركون أن سوريا كانت تراقبهم جيداً فاستدرجتهم الى لعبة أكبر منهم، والى أدوار اعتقدوا انها لا تنحسر. لقد كان بشيراً عقدتهم الخفية في الكواليس وأمثولتهم في العلن، فسقطوا جميعاً في التجربة… الجميل معزولاً، وعون منفياً، وحبيقة قتيلاً، وجعجع سجيناً، وانتهى المجتمع المسيحي الى واحد من خيارين إما الهجرة وإما الخنوع.
ها هو اتفاق الطائف يمضي متعثراً مرات ومفخخاً مرات أخرى، ليتحول إلى دستور لا يرضي أحداً، فلا “حزب الله” يراه مدخلاً الى “ولاية الفقيه”، ولا السنّة يرون فيه ما كانوا يأملون في الحصول عليه من نفوذ وامتيازات وصلاحيات، ولا المسيحيون يرون فيه ما يحضّهم على التضحية في سبيله، ولا السعودية في وارد الدفاع عن دستور عملت طويلا لإقراره، ولا المجتمع الدولي في وارد الذهاب مع العرب الى طائف جديد لاصلاح ما يمكن اصلاحه او تعديل ما يمكن تعديله، ولا المسلمون في وارد النظر في بعض البنود التي تعيد الى الرئيس الاول بعض الصلاحيات، ولا المسيحيون في وارد القيام بأي ثورة لاستعادة بعض المواقع التي تضمن توازن النفوذ بين الطوائف، ولا اللبنانون مجتمعين في وارد الجلوس الى اي طاولة حوار في محاولة لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وهكذا، تحول لبنان بعد أكثر من ثلاثين عاماً الى فريق مسيحي يعتقد انه حصد الغبن في اتفاق الطائف، وفريق سني يعتقد انه حصد الوهم فيه، وفريق شيعي يعتقد انه حصد منه نعمة السلاح، وفريق عالمي لا يرى في الطائف الا افضل الممكن لسحب الناس من المتاريس، وترك الامور لما يتناحر عليه الفرقاء الثلاثة خلف الكواليس.