لمعت أبواق الثورة في 17 تشرين الاول عام 2019، فاعتقد اللبنانيون أنها الطريق الأوحد الذي يوصلهم إلىالتغيير، فعقدوا عليها الآمال بالخلاص وانخرطوا في صفوفها علّها تُحقق لهم أهدافهم وطموحاتهم، ورفعوا رايات الإصلاح وساروا على دروبها في وجه السلطة الحاكمة.
وعلى مدى أيام وأسابيع، خاضت الثورة معاركها الاقتصادية والاجتماعية ونجحت في كسب ثقة المجتمعين المحلي والدولي، ووقفت في وجه الأحزاب في مشهدية قل نظيرها في تاريخ لبنان الحديث، ظناً أن ذلك قد يضع معايير جديدة في مواجهة الفساد والمحاصصة ويساهم في رسم خريطة طريق جديدة لمستقبل لبنان.
واجهت الثورة العديد من التحديات التي جعلتها في مرمى نيران التساؤلات، أبرزها معركة الأحزاب السياسية الثمينة مع الوقت ضد مجموعاتها إذ استطاعت تحمّل ضغوط الشارع وقلب الموازين لصالحها. كما أن نجاح بعض الشخصيات، التي انتفعت من أحزابها السياسية على مر السنوات وكانت جزءاً لا يتجزأ من فسادها، في اختراقها بعدما رأت فيها تحقيقاً لأهداف وغايات شخصية بعيدة كل البعد عن الأهداف الوطنية السامية، أثارت الشكوك حول من يقف وراءها ومن يقودها، لتجري بعدها رياح التغيير التي حملتها في أسابيعها الأولى بما لا تشتهي سفنها بسبب انقسام الثورة إلى ثورات وتشتت الأهداف وتضارب المصالح واختلاف الأهداف والتوجهات الرئيسية، وعوض أن تكون هذه الثورة غايةً أصبحت وسيلةً للانتقام السياسي، فبات السؤال هل فشل مشروع الثورة في ذكراها الثانية؟
مما لا شك فيه أن ثورة 17 تشرين لم تمتلك حتى اليوم أياً من مفاتيح الحكم على الأرض، لكن المسار الذي سلكته لم يكن يوماً مبشراً ولا يدعو إلى الكثير من التفاؤل. إذ كيف لثورة أن تشتعل بسبب 6 دولارات كضريبة على الواتساب وتستسلم لدولار تجاوز الـ 20 ألفاً؟، وكيف لثورة رفضت ارتفاع صفيحة البنزين 5 آلاف ليرة ورضخت لصفيحة بنزين بـ 250 ألف ليرة، وكيف لثورة رفعت شعار “كلن يعني كلن” أن تقبل انضمام أحزاب وشخصيات سياسية الى صفوفها؟، ولماذا قبلت الثورة اليوم بما لم تقبل به عند اندلاعها؟، لماذا رفضت بالأمس تشكيل حكومة تكنوسياسية، وقبلت اليوم بحكومة سياسية بامتياز بعدما دمّر اللعب في الوقت الضائع لبنان اقتصادياً واجتماعياً؟
كان أمام ثورة 17 تشرين فرصة ذهبية لاستقطاب أكبر عدد ممكن من اللبنانيين الناقمين على الأحزاب السياسية، وكانت تستطيع رص الصفوف وتحضير بيئة ثورية متجانسة تتكلل برؤية استراتيجية وعمل منظم يفتح الباب أمام تغيير هيكلي وجذري في بنية لبنان السياسية، لكن الواقع أثبت أن مجموعاتها لا تملك الحنكة السياسية اللازمة ولا الأدوات الناجعة للمواجهة التي هربت منها في العديد من الأحيان. كما أن الثورة لم ترتقِ بعد بالعمل السياسي، ولم تنجح حتى اليوم في غلق دفاتر هذه الأحزاب التي ما زالت تسيطر بشكل واسع على مفاصل السلطة والقرارات المصيرية.
فالعمل السياسي في لبنان يحتاج إلى حنكة ودهاء وتمرس وليس فقط إلى شعارات آنية رنانة، وهذا ما أوقع الثورة في فخ الشعارات، فكان شعارها “كلن يعني كلن” فضفاضاً عليها وأكبر من قدرتها على تحقيقه، لتكون بذلك الثورة قد علمت شيئاً وغابت عنها أشياء.
تخوض ثورة 17 تشرين اليوم تحدياً مع ذاتها وتحتاج إلى جردة حساب مع الذات أولاً، ولا سيما أن البلاد على مفترق استحقاق دستوري سيكون له الكلمة الفصل في إنتاج طبقة سياسية جديدة، وفشلت في توحيد صفوفها تحت قيادة حكيمة تمتلك برنامجاً أو مشروعاً سياسياً أو اقتصادياً.
صحيحٌ أن تعدد الآراء واختلاف وجهات النظر مطلب ضروري في العمل السياسي، إلا أن ذلك يجب أن لا يكون عائقاً أمام بلورة رؤية موحدة تجمع كافة الأطراف والمجموعات واللقاءات تحت راية الثورة الوطنية الشاملة.
وهنا تُطرح علامات استفهام كثيرة حول كيفية نجاحها في مواجهة منظومة متمرسة في العمل السياسي، خصوصاً أنه حتى الآن لا يبدو أنها مستعدة لخوض غمار أعنف الانتخابات وأكثرها ضراوة في تاريخ لبنان الحديث، إذ لم تقدم بديلاً مقنعاً عن الزعماء السياسيين ولم تؤثر إيجاباً في أي مناصر أو منتسب حزبي، في حين يبقى من سيمثلها في الانتخابات النيابية مجهولاً حتى الآن.
يقال إن الثورة تولد من رحم الأحزان، لكن ثورة 17 تشرين تبين لاحقاً أنها ولدت من عنتريات حزبية وأجندات مشبوهة لا علاقة لها بأي من مطالب الموجوعين والمقهورين الذين نزلوا إلى الساحات حاملين راية التغيير الوطنية. هذه الفئة القليلة من اللبنانيين الذين أرادوا التغيير فعلاً من أجل مستقبل واعد بعيداً عن مزاريبالسياسة الفاسدة، هم فقط من يستحقون لقب “الثوار”، لكنهم كانوا الحلقة الأضعف في ثورة انحرفت عنمسارها، بعد أن فشلت مجموعاتها في الاتفاق ونجحت في اللااتفاق.
إن المسؤولين الأساسيين عن تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ليسوا الفاسدين وحدهم فقط، بل كل مناختبأ تحت عباءة الثورة لغاية شخصية في نفسه أو نفس حزبه ومجموعته أو طمعاً بقيادة أو منصب أوتنفيذاً لأهداف سياسية ضيقة. وانطلاقاً من أن الثورات غالباً ما تسقد سقوطاً مدوياً عندما تعجز عن تحقيقأهدافها أو الوصول إلى مبتغاها، فإن الفشل اليوم في التحوّل إلى جبهة سياسية لها وقعها ومناصروهاوجمهورها قبل الوصول إلى الاستحقاق الدستوري غداً وإنجاز التغيير الثوري لن يحصد مستقبلاً إلا المزيدمن خيبات الأمل والندامة، لتكون بذلك ثورة 17 تشرين تلك الثورة التي التهمت أبناءها.