بين ليلة وضحاها، وفي ليلة لا ضوء قمر فيها، وُضعت اليد على أموال المودعين، صغارًا كانوا أم كبارًا لا فرق. فالحقّ حقّ أيّا كان صاحبه. والمصيبة مصيبة أيًّا كان متلقّيها.
من هم هؤلاء المودعون، الذين خسروا أموالهم بسبب قصر نظر سلطة أو منظومة فاسدة لم تستطع أن تبني دولة كاملة المواصفات كبقية الدول، التي كانت تتمنى لو أن مدنها تصبح مثل بيروت، قبل أن “تُصاب بالعين”، وقبل أن يصبّوا ماء نار على وجهها الجميل؟
إنهم كل فرد أو ربّ عائلة، وأنا واحد منهم، إشتغل وكدّ وسهر الليالي وتعب وجاهد حتى يؤمّن لعائلته ما يردّ عنها العوز والحاجة إلى الناس. كل ذلك بعرق الجبين وبكثير من الصبر والإحتمال، إعتقادًا منه بأنه يخبىء قرشه الأبيض ليومه الأسود. إنه كما يُقال لدى أهل القرى الطيبين “تحويشة العمر”، ولكي تُستر الآخرة، في بلد لا ضمان فيه ولا إحترام للشيخوخة.
إنهم كل واحد من أهلنا الذين سافروا إمّا إلى دول الخليج العربي أو إلى الدول الأفريقية ليؤّمنوا مستقبلًا آمنًا لأولادهم من بعدهم، وليضمنوا آخرة لا “شنططة” فيها.
إنهم أخوتنا الذين هاجروا إلى بلاد الله الواسعة سعيًا وراء لقمة العيش الكريمة، وآمنوا كما غيرهم كثيرون، بأن لا غنى لهم عن وطنهم الأمّ مهما تغرّبوا أو بعدوا. فكانوا يرسلون ما توافر لهم من مدّخرات إلى المصارف اللبنانية ليسدّوا بها حاجتهم لدى عودتهم إلى قراهم.
فماذا كانت النتيجة، وهي التي لم يكن أحد يتوقّعها، لأن جميع المسؤولين كانوا يصرّون في تأكيداتهم على ان الليرة بخير وأن وضعها مستقرّ؟
النتيجة يعرفها الجميع، وبالأخص أولئك الذين أيديهم في النار. فالليرة إنهارت، وهي التي كانت مضرب مثل من يتصّف بالمتانة والقوة والنظافة، فيقال له “إن سمعته متل الليرة”.
ماذا يعني أن الذين تعبوا طوال سنين، ووصلوا الليل بالنهار، يرون أنفسهم، وبغفلة من الزمن قد خسروا ما فوقهم وما تحتهم(*)، وأصبحوا على الحصيرة أو على الأرض يا حكم؟
هل تدركون ماذا فعلتم بأولئك الذين إدّخروا ما تيسرّ له لآخرتهم، فكانت النتيجة أنكم “جبتولُن آخرتُن” قبل آوانها؟
نسمع هذه الأيام كلامًا كثيرًا، من هنا وهناك، عن حرص نتمنى أن يكون صادقًا، على حقوق المودعين وبالأخصّ الصغار منهم. فكيف سيترجم هذا الحرص، وكيف يمكن لمن لا ينام لا ليلًا ولا نهارًا أن يقتنع بأن حقه لن يضيع، وهو لا ينفكّ يطالب به في كل المحافل والمجامع، وفي الساحات والطرقات؟
ما نعرفه على الأقل يوحي بأن ثمة من يتحرّك، ولكن بهدوء الواثق، لضمان حقّ كل ذي صاحب حقّ، وأن تعب السنين الطويلة لن يذهب سدىً وهدرًا.
صحيح أن الجمرة لا تكوي إلاّ مطرحها. ولكن الصحيح أيضًا أن من قَبِل أن يتلقف كرة النار بيديه العاريتين لن يقف مكتوف اليدين، ولن يبقى في صفوف المتفرجين على عذابات الناس ومعاناتهم.
لا بدّ من أن يأتي الحل، ولو تأخرّ قليلًا. Mieux vaut tard que jamais. هذا ما تعّلمناه، وهذا ما يجب أن نصدّقه، وأن نضع أيدينا بمياه باردة، إذ لا بدّ من أن بعد العسر يسرًا.
(*) الفوق هو اللحاف. والتحت هو الفراش.