أن يتعرض رئيس للجمهورية اللبنانية لحملات تدعوه إلى التنحي والاستقالة، ليس غريباً ولا أمراً غير عادي في تاريخ لبنان الحديث، فهو اصاب الرؤساء بشارة الخوري وكميل شمعون وسليمان فرنجية في فترات متفاوتة، لكن الغرابة تكمن في أن هذه الحملات لا تأتي هذه المرة من مسلمين في شكل عام، بل من فئات مسيحية وتحديداً مارونية، وتطاول الرئيس ميشال عون الآتي الى الرئاسة من دائرة “الرؤساء الموارنة الأقوياء”…
والأكثر غرابة، ان الرجل الذي يعتبر نفسه الاوسع شعبية بين اقرانه في المجتمع المسيحي، لا يجد بين المسيحيين انفسهم غالبية مستعدة للدفاع عنه او للنزول الى الشارع تحت عنوان الثقة او الرضى او المبايعة، تماماً كما جرى مع شمعون وفرنجية، وما كاد يجري مع بشارة الخوري لو لم يفضل الاستقالة على المعاندة…
وليس في الامر اي نقص في العنفوان المسيحي العام أو في الحرص على مقام الرئاسة الاولى، بل في انتفاء اي دافع او غريزة او عصبية او حجة تدفع الموارنة في غالبيتهم الى التمسك برئيس لم يكن على قدر آمالهم، ولا على مستوى القوة التي أوحى بها طويلاً، ولا حارساً لحقوقهم ودورهم في وقت تجاوز كل الخطوط الحمر المسيحية، وارتمى تماماً في حضن ايديولوجيا أصولية تعمل على تغيير وجه لبنان وازالة اي شيء يرمز الى عهد المارونية السياسية على المستويات القيادية والثقافية والسيادية والفنية والاقتصادية والديبلوماسية…
ويُجمع القسم الأكبر من الموارنة على ان عون سيمثل في الذاكرة اللبنانية الجماعية، أكثر الرؤساء تغييباً وارتهاناً، وأكثرهم تقصيراً وعزلة، وأقلهم تجرداً من اي مصالح ذاتية او عائلية او حزبية، مؤكدين ان “الجنرال” الذي تسلح بالجيش معلناً حرب الإلغاء على الميليشيا المسيحية، ومساهماً في هجرة نحو نصف مليون مسيحي، أواخر الثمانينيات، تحوّل بعد ثلاثين عاماً الى الرئيس الذي غيّب الجيش مكرّساً ميليشيا “حزب الله” جيشاً بديلاً ومساهماً مرة جديدة في هجرة ما تبقى من المسيحيين لا بل ما تبقى من مقومات لبنان…
لم يحدث في تاريخ الرؤساء اللبنانيين أن يدخل رئيس الى القصر الجمهوري في معية شعبية واسعة يعتد بها، ثم يتقوقع وحيداً ليجد نفسه محاطاً ببضعة مقربين ومستشارين، وربما للخروج من القصر رئيساً سابقاً غير مؤهل للتحول بعدها الى زعيم مؤثر او مرجعية شعبية كما يتوقع المراقبون والمؤرخون للرئيس الحالي، ولم يحدث أن يلتزم رئيس جدران القصر الجمهوري كما يفعل، ولم يحدث ان يحظى رئيس للوزراء بهذه المساحة الواسعة في تمثيل مصالح لبنان في الدوائر العربية والدولية، كما شهد عهد “الرئيس القوي”، ولم يحدث ان يرن هاتف السرايا الحكومية من دون هوادة في وقت لا يتلقى او يجري رئيس الجمهورية اي اتصال يتجاوز محور الممانعة من سوريا الى طهران…
انها المرة الوحيدة في تاريخ الرؤساء اللبنانيين يصل ثمن الرئاسة الى هذا الارتفاع المجنون والانتحاري، ويتعامل رئيس مع احتضار بلد وشعب، وكأن الامر اصاب بلدا آخر او شعبا آخر، ويكتفي رئيس بتمضية الوقت ملقياً اللوم على الآخرين في استقبالات روتينية عادية لا تسفر عن شيء ولا تتمخض عن شيء تاركاً أمر البلاد لسلاح يأخذ لبنان نحو الزوال وطامح يأخذه نحو المجهول.
وهذه المرة الاولى ايضا يشهد المسيحيون خصوصاً، واللبنانيون عموماً، رئيساً يطل عليهم عجوزاً متثاقلاً متلعثماً مرتبكاً وحتى تائهاً كما فعل ويفعل ميشال عون. إنه المشهد الذي تكرر مرات عدة، واطلق سلسلة شائعات تتعلق بقدراته الذهنية والصحية وحتى النفسية.
ولسنا هنا في وارد التشفي أو الاستخفاف، بل في وارد الاضاءة على وضع ملتبس لا يوحي بالتماسك او بالأمان او بالقدرة على ادارة امور البلاد والعباد بوعي وحكمة واحتراف…
اضف الى ذلك ان لبنان لم يعرف في تاريخه رئيساً تعامل مع الدستور اللبناني من زوايا شخصية في معظمها وليس وطنية، كما فعل ويفعل ميشال عون، بحيث يوقع عندما يكون المرسوم متماهياً مع طموحات ومصالح عائلته وفريقه السياسي، وتحديداً صهره جبران باسيل، فلا تتشكل حكومة ما لم تكن على قياسه، ولا يسمى رئيس للوزراء ما لم يكن خاتماً في اصبعه، ولا تجرى انتخابات نيابية ما لم تضمن له غالبيته، ولا تمر تعيينات او صفقات او قوانين ما لم تكن رهن رغباته…
وأضف الى ذلك ان عون امضى حتى الآن خمس سنوات في قصر بعبدا من دون ان يقص شريط افتتاح واحداً لاي مشروع سياحي او بيئي او صناعي او زراعي او ثقافي او اجتماعي، فلا طرق ولا جسور ولا كهرباء ولا مياه ولا مواصلات ولا انترنت ولا نظافة ولا استثمارات، ولا أمن ولا شفافية ولا قضاء مستقل ولا سلطة للدولة والجيش، ولا اي ضمانات صحية او عمرية ولا اي رؤية تعالج الانهيار الشامل والكامل الذي ضرب مقومات لبنان على كل المستويات…
وأهم من كل ذلك، لا دور للبنان من اي نوع باستثناء الدور الذي يلعبه “حزب الله” في حروب المنطقة وازماتها، ولا اي دور للمسيحيين انفسهم الذين كانوا في حسابات العرب مواطنين مسالمين لا يشكلون اي تهديد في اي دولة عربية ينزلون فيها.
وهنا لا بد من السؤال: هل يستأهل لقب الفخامة كل هذا الارتهان؟ وهل يعتبر ميشال عون الرئيس الوحيد الذي دخل قصر بعبدا مديناً لأحد؟
الجواب كلا… فأسلافه كانوا مدينين لجهات بريطانية واميركية وسوفياتية واسرائيلية وسورية وعربية، لكن احدا منهم لم يسجن نفسه في قصر بعبدا وجعل نفسه رهينة مستسلمة لمن دعمه عندما كان الامر يتعلق بسيادة لبنان واستقلاله ودوره وتنوعه وميزاته الثقافية والحضارية…
هناك حقيقة قد لا يتنبه إليها الكثير من انصار “التيار الوطني الحر”، وهو ان رئيسهم، اي ميشال عون يمثل في التاريخ الرئيس الماروني الوحيد الذي جاء بضغط شيعي لا وطني وحكم بقرار شيعي لا شعبي وصمد بسلاح شيعي لا شرعي، والرئيس الماروني الوحيد الذي لم يجد مرجعاً مارونياً واحداً يدافع عنه عندما وقع او تعثر، بعضهم لعدم ايمانهم به وبعضهم لخيبتهم منه…
وهناك حقيقة اخرى وتتمثل في ان “التيار الوطني الحر” يرفض الاقرار بأن “حزب الله” تحول الى “عدو مشترك” لاكثر من نصف اللبنانيين، وتحول الى مصدر “تدمير” لا تحرير، وان هذه الحال انسحبت عليه وتوشك أخذه اما الى الهزيمة واما الى المحاكمة…
وسط هذا المشهد، الا يحق لنا ان نسأل فخامته: الم يحن الوقت للرحيل ولو قبل الاوان… انت لست هناك منذ العام 2018، انت هناك منذ العام 1988؟ الم يكن كافيا ما حدث في 13 تشرين؟ اليس كافياً ومعيباً ما يصيبك الآن من حملات واستخفاف وتطاول على المحرمات والمقامات؟
فخامة الرئيس، بعض المهام لا ترتبط بعامل الوقت دائماً، بعضها يسقط قبل اوانها؟ الم يحن الوقت فخامة الرئيس للقليل من الراحة كي لا نقول للقليل من العنفوان؟