رغم أنّه كان متوقَّعًا، في ظلّ التسريبات التي تكثّفت في الأسبوعين الماضيين، بدا إعلان رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري “تعليق” مشاركته في العمل السياسي، أو ما وُصِف بـ”الاعتزال”، صادمًا لكثيرين، من حلفاء الرجل وخصومه على حدّ سواء، ممّن أدركوا أنّ لهذا العزوف “تداعيات” قد لا تكون بسيطة على المشهد.
ولعلّ ما رفع وقع “الصدمة” التي أحدثها الخبر أنّ الحريري لم يكتفِ بإعلان الانسحاب وعدم الترشح إلى الانتخابات النيابية المقبلة على المستوى الشخصي، معطوفًا على دموع عفوية كرّست صورة “انكسار” لم يستطِع حجبه أو إخفاءه، بل ذهب لحدّ فرض “فيتو” سلفًا على أيّ ترشيحات من تيار “المستقبل” أو باسم “التيار الأزرق”.
وإذا كانت “تبعات” انسحاب الحريري أكبر، من حيث الأهمية والدلالات، من الاستحقاق الانتخابي المُنتظر، فإنّ علامات استفهام بالجملة تُطرَح حول “مصير” هذه الانتخابات، في ظلّ سيناريو عاد البعض للتداول به في الساعات الأخيرة حول احتمال “تطييرها” بعنوان “الميثاقية” التي ستكون غائبة بغياب الحريري، وآخرين تشير التقديرات إلى أنّهم سيحذون حذوه.
“ميثاقية مهدَّدة”
لم يكن سعد الحريري أول “المعتكفين” عن خوض الانتخابات، إذ سبق إلى ذلك الرئيس تمام سلام، وسيلحق بهما آخرون، وفق ما تؤكد الكثير من التسريبات، علمًا أنّ “صورة” الترشيحات لا تزال “غامضة”، وهي لا شكّ ستزداد “غموضًا” بعد انسحاب الحريري وتيّاره، مع ما سيترك ذلك من فراغ “ثقيل وقاتل”، خصوصًا على الساحة السنّية.
بهذا المعنى، يقول البعض إنّ “ميثاقية” الانتخابات قد تكون مهدَّدة، ليس بالمعنى القانونيّ ربما، ولكن بالمعنى السياسيّ، علمًا أنّ خصوم رئيس تيار “المستقبل” هم أكثر من “يتوجّسون” من تبعات انسحابه، حتى لو اعتبر البعض في قراءته الأولية لـ”الحدث” أنّه سيمهّد الطريق لتوسيع “نفوذ” هؤلاء الخصوم، وتحديدًا إيران وحلفائها في المنطقة، في ظلّ اعتقاد “مضاد” لدى هؤلاء بأنّ “البدلاء” عن القيادات السنية الموجودة لن يكونوا من المؤمنين بنهج “الاعتدال”.
لهذا السبب، يبدو “سيناريو” تأجيل الانتخابات أكثر من وارد، وفق ما يرى العارفون، فحلفاء الحريري وخصومه قد لا يجدون الظروف ملائمة لاستحقاق يغيب عنه ممثلو الطائفة السنية الأساسيون، ويسمح بملء الفراغ بكتل صغيرة متباينة لا تعكس حقيقة المزاج الشعبي، من دون تجاهل “طابور خامس” قد يجد في الأمر “مَخرَجًا مثاليًا” لتحقيق رغبته بـ”تطيير” الانتخابات، مستندًا هذه المرّة إلى حُجَجٍ قد تبدو للبعض “واقعية ومنطقية”.
الانتخابات (لا) تتأثر
لكن، ثمّة في المقابل، وخصوصًا بين الخبراء الانتخابيّين والسياسيّين، من يجد مثل هذه المبرّرات “غير مقنعة”، لأنّ مبدأ “الميثاقية”، على أهميته، لا ينطبق على انتخابات نيابية، طالما أنّ من لا يخوضون الاستحقاق يفعلون ذلك بملء إرادتهم، أي أنّ أحدًا لم يُقصِهم، حتى أنّهم لا يفعلون ذلك احتجاجًا على قانون “يقصيهم” مثلاً، بدليل أنّهم سبق أن خاضوا انتخابات على أساسه وبموجبه، وحصدوا عددًا غير يسير من المقاعد في البرلمان.
من هنا، يرى هؤلاء أنّ الاستحقاق الانتخابي لا ينبغي أن يتأثّر بإحجام بعض الفرقاء، مهما علا “وزنهم”، عن المشاركة فيه، لأنّ هذا “حقّهم” في النهاية، ولا أحد يستطيع أن “يجبرهم” على خوض الشأن العام، إن لم يرغبوا بذلك، لكنّهم يعتبرون أنّ مجرّد الحديث عن هذه الفرضية، معطوفًا على “التشكيك” الدائم بحصول الانتخابات، قد يكون “خطيرًا”، لأنّه يؤكد مرّة أخرى أنّ “سيناريو” تطيير الانتخابات لا يزال طاغيًا لدى كثيرين.
بالنسبة إلى هؤلاء، صحيح أنّ غياب الشخصيات الوازنة عن خوض الانتخابات سيُحدِث “خللاً” في المعادلة، قد لا يكون بسيطًا، لكنّ “الخلل” الذي سيحدثه “تطيير” الانتخابات عن بكرة أبيها يبقى “الأخطر” على الإطلاق، علمًا أنّ هناك “سابقة” في إجراء انتخابات رغم “مقاطعة مسيحية” كانت شاملة، وكانت مرتبطة برفض النظام السياسي والقانون الانتخابي، ولو أنّ “المقارنة” بين ظروف اليوم وظروف هذه “السابقة” لا تستقيم.
لا شكّ أنّ عزوف الحريري عن خوض الشأن العام، بما يشمل الانتخابات النيابية، سيفتح البلاد أمام مرحلة سياسية جديدة، لا يزال حتى الآن الغموض، غير البنّاء ربما، يسيطر عليها. قد يكون “مصير” الانتخابات وُضِع على المِحَكّ في المقام الأول، لكن أبعد من الانتخابات، ثمّة “هواجس” كثيرة على واقع سياسيّ لا شكّ سيتغيّر، ويخشى كثيرون أن يؤدّي إلى “انقلابات” لا تبدو الساحة اللبنانية جاهزة لها في الوقت الراهن.