تزامنت زيارة وزير خارجية الفاتيكان المونسنيور بول ريتشارد غالاغير مع كلام مهمّ ولافت لرأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرنسيس لدى إستقباله المطران ميشال عون، قال فيه إن “لبنان يتألم كثيرا، ولا يقدر ان ينهض من دون همة شعبه الذي يجب ان ينتفض كيلا تقع ارزات لبنان”.
وبكل تواضع توجّه البابا الى المطران عون بقوله: “ادعوك وانت اخي في الاسقفية كما ادعو الاكليروس في لبنان والكنيسة جمعاء، ان تتحلى بالفقر لكي تقدر أن تخدم شعبها، فلا تقدر ان تكون الكنيسة غنية والشعب فقير”.
وهذا الكلام ذكرّني بموقف مماثل إتخذه البابا فرنسيس قبل نحو ثلاث سنوات، في لقاء ضمّ عددًا من المطارنة الموارنة في لبنان، عندما إستهجن وضع هؤلاء المطارنة صلبانًا من الذهب الخالص على صدورهم. وكان له يومها موقف قاسٍ جدًّا مذكّرًا الحاضرين بأن “من نحمل إسمه لم يكن له موضع يتكىء إليه، وهو الذي ترك عرش أبيه السماوي وولد في مزود ليخلصّنا ويفتدينا بدمه”.
وكلام البابا عن الطريقة البسيطة التي عاشها المسيح على الأرض إختصرها الإمام علي بن أبي طالب بوصفه الرائع المفترض أن يكون خارطة طريق لرعاة الكنيسة، حين قال عنه “فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْحَجَرَ، وَيَلْبَسُ الْخَشِنَ، وَيَأْكُلُ الْجَشِبَ، وَكَانَ إِدَامُهُ الْجُوعَ، وَسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْقَمَرَ، وَظِلَالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَفَاكِهَتُهُ وَرَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، وَلَا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، وَلَا مَالٌ يَلْفِتُهُ،وَلَا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلَاهُ، وَخَادِمُهُ يَدَاهُ”.
لم يفهم قداسة البابا كيف أن رعاة الكنيسة في لبنان يسمحون لأنفسهم بأن يتمتّعوا بخيرات الأرض ويعيشوا حياة ترف وبحبوحة في الوقت الذي لا يستطيع كثيرون من أبناء رعاياهم تأمين لقمة “خبز حاف” ليقتاتوا بها. بطبيعة الحال، هذا الوصف لا ينطبق على الجميع ولا يمكن تعميمه، لأن ثمة رعاة يسهرون على أبناء رعيتهم كسهر الأمّ على أبنائها. فلا ينامون قبل أن يطمئنوا إلى أن جميع أبناء الرجاء لا ينقصهم شيء.
وهنا تعود بنا الذاكرة يوم رهن الرئيس العام للرهبانية اللبنانية المارونية الأباتي إغناطيوس داغر التنوري أوقاف الرهبانية للدولة الفرنسية لكي يستطيع أن يؤمّن للمؤمنين ما يقتاتون به يوم ضربت المجاعة لبنان في الحرب العالمية الأولى.
وعندما لامه بعض الرهبان على فعلته قال لهم ما معناه ما قيمة الأرض إذا خسرنا الإنسان. هي وجدت لخدمته. هو يخدمها وهي تعطيه. أمّا إذا زال هو من الوجود فلا يعود لهذه الأرض من قيمة تُذكر.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر صودف أن أحد البطاركة الشرقيين كان في زيارة رعائية فأقيمت له المآدب التكريمية. وكان فيها من المأكل والمشرب ما لذّ وطاب، وذلك تعبيرًا عن حسن الضيافة، فقال لهم وبشيء من المزاح الممزوج ببعض الملامة “لا تجعلوا أحدًا يصوّر هذه المائدة وما فيها من كرم وبذخ خوفًا من أن تصل هذه الصور إلى قداسة البابا فرنسيس”. بالطبع إكتفى بقليل من الأكل الموجود بوفرة، وطلب توزيع الباقي، وهو كثير، على الفقراء والمحتاجين.
ما قاله هذا البطريرك، وهو معروف بتجرّده وتواضعه، ليس خوفًا من غضب البابا، وإنما كان المقصود به لفت أنظار الحاضرين إلى توجيه عنايتهم إلى الفقراء والمعوزين، حيث “كنت جائعا فأطعمتموني، وعطشانا فسقيتموني. كنت غريبًا فآويتموني، وعريانًا فكسوتموني، ومريضًا فزرتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليَّ” .
أمّا عن نتائج زيارة المونسنيور غالاغير فستظهر لاحقًا وتباعًا، وهي ستكون مرتبطة بقضايا وطنية عامة من خلال تظهير موقف الفاتيكان الرسمي حيال الوضع في لبنان، إضافة إلى ما يحمله من رسائل إلى المسؤولين الروحيين في الكنيسة من مطارنة ورؤساء عامين ورئيسات عامات لمختلف الرهبانيات، خصوصًا أن لدى الدوائر المعنية في الفاتيكان أكثر من رسالة من رهبان يطالبون فيها بعودة حياة النسك والتقشف والصلاة والصوم والزهد إلى الأديار الرهبانية.