منذ وصوله إلى رئاسة الجمهورية قبل خمس سنوات ونيّف، فرض الرئيس ميشال عون، من حيث يقصد أو لا يقصد، “فصلاً واضحًا” بين مرحلتين. يومها، بدا لكثيرين أنّ “ميشال عون بعبدا” لا يشبه أبدًا “ميشال عون الرابية”، فالأول برز بهدوئه ومهادنته “المُبالَغ بهما”، بعدما عُرِف الثاني بالغضب والانفعال اللذين لازماه على امتداد سنوات طويلة.
حافظ الرئيس ميشال عون على هذه الصورة على امتداد سنوات حكمه. صحيح أنّه دخل في سجالات ومعارك مع الكثير من القوى السياسية، لدرجة أنّه يبدو “معزولاً” اليوم، لا حليف له بالمعنى الحرفيّ سوى “حزب الله”، إلا أنّه بقي في العلن على “هدوئه”، وهو ما نجح في تعزيزه حين اعتمد “تكتيك” الرسائل المسجّلة، تفاديًا ربما لأيّ “غضب” ينقلب عليه.
لكنّ عون بدا في الحديث الأخير المنسوب إليه في صحيفة “الجمهورية”، وكأنّه قلب الصفحة، مسترجِعًا صورة “ميشال عون الرابية” بشكل أو بآخر، بعدما “تحرّر من إتيكيت الرئاسة”، وفق تعبير من حاوره، ولا سيّما أنّ الرئيس تخلّى عن “دبلوماسيّته”، فصوّب في كلّ الاتجاهات، مهاجمًا “خصومه” بعنف مثير للانتباه، وربما الاستغراب في جانب ما.
“الكيل طفح”
في حديثه، هاجم عون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. قد لا يكون ذلك جديدًا، إذ إنّ الرئيس يخوض “معركة” ضدّ الأخير منذ فترة، وليس خافيًا على أحد أنّه يرغب بـ”إقالته”، لكنّه يصطدم بوجهة نظر مغايرة في مجلس الوزراء تعتبر أنّ الوقت غير مناسب لمثل هذه الخطوة، ويتصدّرها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي نفسه، الذي سبق أن أعلن صراحةً وبوضوح، رفضه لـ”تغيير الضباط في أوج المعركة”.
لكنّ عون يقولها صراحةً: كيله طفح. يتحدّث عن “إنذار” وجّهه لسلامة قبل أيام، وعن “مهلة سماح” انتهت. يشير خصوصًا إلى “معركة” التدقيق الجنائي التي يعتبر نفسه “عرّابها”، شاكيًا “عدم تجاوب” حاكم المصرف المركزي. يعرّج على أزمة “التلاعب بالدولار”، متحدّثًا عن “وقاحة منقطعة النظير”، قبل أن يؤكد للقاصي والداني: “أنا حاد في موقفي أكثر ممّا يتصوّره البعض، وأعني ما قوله”.
وعلى “رمزيّة” المعركة مع حاكم مصرف لبنان بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، فإنّ “هجومه” لم يقتصر على سلامة، بل “تجاوزه” إلى سائر “الخصوم”، من رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، الذي وصفه بـ”المزاجي”، مشيرًا إلى أنّه “يحتار مع أيّ وليد جنبلاط يتكلم”، وصولاً إلى رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، الذي شنّ عليه هجومًا لاذعًا، معتبرًا أنّ “شغله الشاغل هو التحريض”، متسائلاً عن “الإنجازات” التي قدّمها للبلد.
ما خلفيّات الهجوم؟
لا شكّ أنّ هذا الكلام، رغم أنّه قد يبدو “عاديًا” لكثيرين ممّن يعرفون “ميشال عون الرابية” تاريخيًا، يبدو “صادمًا” لمن واكبوا مسار عون الرئاسي منذ وصوله إلى قصر بعبدا، بعدما تولّى رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل مسؤولية “الهجوم” متى استدعت الحاجة، فيما حرص عون على ترك “هامش” لنفسه، انطلاقًا من حيثيّة موقعه كرئيس لكلّ اللبنانيين، وهو الذي تبنّى شعار “بيّ الكل” عند وصوله إلى القصر.
يعزو البعض هذا الهجوم لأكثر من سبب، أولها أنّ “كيل” عون قد “طفح” فعلاً، ربما ليس للأسباب الموجبة التي شرحها، ولكن قبل ذلك لأنّه يرى أنّ عهده اقترب من النهاية، من دون أن يحقّق “الحد الأدنى” ممّا كان يصبو إليه. ولأنّ عون يعتقد أنّ “الخصوم” هم من يضعون العصيّ في الدواليب، مانعين “العهد” من الإنجاز، رغم الانتقادات التي يتعرّض لها شعار “ما خلّونا”، أراد أن يردّ “بالمباشر” هذه المرّة، ولو عبر كلام مكتوب يبقى “مضمونًا” أكثر.
ولعلّ الانتخابات النيابية المفترضة في أيار غير بعيدة عن “أجندة” الرئيس، خصوصًا في ظلّ المخاوف والهواجس من تراجع الشعبيّة التي سيدفع ثمنها “التيار الوطني الحر”. ولعلّ المعركة التي يخوضها عون ضدّ رياض سلامة بشكل خاص تندرج في هذا الإطار، فهو يحاول أن “ينتزع” انتصارًا على خطّ “التدقيق الجنائي”، يمكن “توظيفه” انتخابيًا، ولا سيّما بعدما باتت القواعد الجماهيرية “معبّأة” بفعل الأزمة المالية المتفاقمة، التي قامت على “سرقة” ودائعهم.
ليس تفصيلاً أن يأتي “غضب” رئيس الجمهورية، الذي يشكّل “انقلابًا” بشكل أو بآخر على الصورة التي رسمها لنفسه ولـ”العهد” منذ وصوله إلى بعبدا، متزامنًا مع “إعادة تموضع” رئيس “التيار الوطني الحر” الوزير السابق جبران باسيل، إلى جانب “حزب الله”. باختصار، قد تكون كلمة السر مرّة أخرى، “إنّها الانتخابات يا عزيزي”، انتخابات قد تشرّع في الأسابيع القليلة المقبلة الكثير ممّا كان يعتقد كثيرون أنّه من “المحظورات” وأكثر!