التاريخ المميز 2023، إنه الموعد الذي سترتقي فيه موريتانيا إلى مصاف الدول المصدرة للغاز المسال، اكتشافات هائلة وواعدة أسالت لعاب الغرب وأقنعت بريطانيا بفتح سفارة لها في نواكشوط بعد 60 عاما من استقلال موريتانيا، وفتحت شهية شركات النفط والغاز العالمية.
ويتطلع الموريتانيون بلهفة إلى ذلك التاريخ الذي سيكون شاهدا على تصدير أول شحنة من الغاز المستخرج من المياه الموريتانية السنغالية، ويترقبون تلك الآفاق التي ستفتحها الثروة البترولية للشعب الفقير.وتتجه الأنظار صوب حقل “السلحفاة آحميميم” في الحدود البحرية الموريتانية السنغالية والذي تقدر احتياطاته بأكثر من 450 مليار متر مكعب من الغاز، وقد وقّعت الدولتان اتفاقا لاستغلاله مع شركتي “كوسموس إنيرجي” (Kosmos Energy) و”بريتش بوتروليوم” (British Petroleum)، والذي كان عليه أن يبدأ مع حلول 2022 قبل أن يتأخر لـ2023 بسبب تأثيرات الجائحة، ويتوقع أن ينتج في المرحلة الأولى سنويا 2.5 مليون طن من الغاز المسال.
وفي آخر تصريح له أمام البرلمان، أكد الوزير الأول الموريتاني أن نسبة إنجاز الأشغال في مشروع آحميميم بلغت 70%، ومؤخرا أقر البرلمان قانون عقد إضافي على اتفاقية التعاون المشترك بين موريتانيا والسنغال المتعلق بتطوير واستغلال الحقل المشترك.شراكة رغم ما عليها من مآخذ عند بعض المراقبين، فإنها حسب ما صرح به للجزيرة نت المدير العام للمحروقات في وزارة البترول، مصطفى بشير تبقى الخيار الإستيراتيجي الأمثل الذي بني على ضوء تجارب أخرى مماثلة في العالم كتلك الموجودة في بحر الشمال كحقل “فريغ” (Frigg) المشترك بين المملكة المتحدة والنرويج.كما جاءت أيضا رغبة من البلدين في توطيد العلاقات الأخوية وتحسين التعاون بينهما، مضيفا أن الاستغلال المشترك في مثل هذه الحالات يعتبر أحسن طريقة للتطوير الفني والتجاري للحقل المشترك بدل الخيار الآخر الذي يستغل فيه كل طرف ما في جانبه، وهو ما من شأنه أن يرفع التكاليف ويقلل من نسبة الأرباح، ولكن ما لا يعلمه الكثير هو أن احتياطات الحقول الموريتانية الخالصة أكثر بكثير من الحقل المشترك.
حقول غاز موريتانية خالصة مكتشفة جنوبا يترقب الشارع الموريتاني الذي انتعشت آماله استغلالها، ويتصور في مخيلته ما ستحدثه من نقلة اقتصادية نوعية، حسب ما يمني به المسؤولون، ولكنه في الوقت نفسه قلق إزاءها، خوفا من أن تكون كالثروات الطبيعية التي سبقتها من ذهب وحديد ولم تنعكس عليه بشكل جلي.حقول خالصةبعد أن شهد الحوض الساحلي الموريتاني الذي تبلغ مساحته 184 ألف كيلومتر مربع، في السنوات الأخيرة نشاطا استكشافيا مكثفا من طرف الشركات العالمية في مجال النفط والغاز والتي من بينها “بريتش بتروليوم” البريطانية، وشركتا “كوسموس إنيرجي” و”إكسون موبيل” الأميركيتان، و”توتال” (Total) الفرنسية وشل (shell) البريطانية-الهولندية، كانت نواكشوط في 28 أكتوبر/تشرين الأول 2019 على موعد مع الإعلان عن تأكيد اكتشافات من الغاز في مياهها الإقليمية هي الأولى من نوعها في تاريخ الجمهورية من حيث كمية الاحتياطات.ويعتبر حقل بير الله هو عملاقها إذ تبلغ احتياطاته 80 تريليون قدم مكعبة من الغاز، ويمثل أكثر من 10% من الاحتياطات الأفريقية، لتصبح موريتانيا هي الثالثة أفريقيا بعد نيجيريا والجزائر، وأسهم في مضاعفة احتياطات الغاز التي كانت في بدايتها خجولة جدا حيث اكتشفت شركة “وود سايد” الأسترالية سنتي 2002 و2003 على التوالي حقل “بنده” الذي قدر احتياطه بـ1.2 تريليون قدم مكعبة، وحقل “بيلكان” باحتياطي قدر بـ1.6 تريليون قدم مكعبة.وفي سنتي 2004 و2005 تم اكتشاف حقلين آخرين من الشركة نفسها (تيوف ولعبيدنه) اللذين قدرت احتياطاتهما على التوالي بـ400 مليون برميل، و50 مليون برميل، ولكن شركة “وود سايد” لم تتمكن من تقديم مخططات تنموية لاستغلالهما اعتمادا على دراسات الجدوى الابتدائية.ووفقا لما جاء في بيان لوزارة البترول والمعادن والطاقة، فإن حقل (باند) الذي يقع في الساحل الموريتاني على بُعد حوالي 60 كيلومترا من نواكشوط يخضع لدراسة تنمية مع شركة “نيو فورتريس إنيرجي” (New Fortress Energy/ NFE) الأميركية في إطار مذكرة تفاهم وقعت نهاية السنة الماضية لإنتاج الكهرباء وفقا لخطة تحويل الغاز إلى طاقة.تحديات الإنتاجبعد أن أنهت الحكومة الموريتانية قضية حقل (آحميميم المشترك) وحسمت اتفاقيات الشراكة والاستغلال واقترب موعد الإنتاج، يبقى التركيز اليوم منصبا على كيفية استغلال الحقول الأخرى الخالصة في المياه الموريتانية.وحسب ما صرح به المدير العامل للمحروقات للجزيرة نت، فإن قطاعه قد أكمل المخطط التوجيهي لاستغلال الحقول الموريتانية الخالصة، ووضع خريطة طريق لذلك، ولكن يضيف أن استخراج الغاز يواجه في موريتانيا تحديات كبرى لعل أبرزها ذلك الذي يتمثل في ندرة المصادر البشرية فالقطاع بحاجة بدرجة أولى ليس إلى مهندسين بل إلى اليد العاملة المكونة من فنيين في سلسلة القيمة.وأشار إلى ضرورة تغيير العقليات والتوجه نحو القطاعات الخدمية، مؤكدا الحاجة إلى مساهمة أكثر فاعلية من القطاع الخاص والشركات الصغرى، بالإضافة إلى تحديات أخرى تفرضها الوضعية العامة لقطاع المحروقات كصعوبة إيجاد التمويلات والإكراهات والالتزامات الدولية المتعلقة بالتحول الطاقوي الجديد.المداخيل وشبح الفسادتشير التوقعات الاقتصادية إلى أن مشروع السلحفاة آحميميم الكبير وحده سيدر مداخيل مهمة على خزينة موريتانيا تقدر بـ100 مليون دولار سنويا في المرحلة الأولى من الإنتاج ليصل في المرحلة الثانية والثالثة إلى مليار دولار سنويا، إذ من المتوقع أن تتجاوز قدرة الإنتاج عتبة 10 ملايين طن سنويا، وهي مداخيل راهنت الحكومة على أنها ستغير من الواقع وتحدث تحولا في الاقتصاد الوطني.ولكن يبقى التقيد بمبادئ “الحكامة (الحوكمة) الرشيدة” هو التحدي الأبرز والهاجس المسيطر على عقول المواطنين الذين يمنون النفس باستغلال أمثل لهذه الثروة وبشفافية لإنعاش اقتصادهم المنهك.ويقول المدير العام للمحروقات “إن موريتانيا داخلة في مبادرة الشفافية العالمية ووفية بالتزاماتها وعهودها في هذا المجال وأن مسطرة منح العقود للشركات البترولية تمر بمساطر (إجراءات) قانونية واضحة وعن طريق مراسيم قوانين من مجلس الوزراء وطبقا لقانون محروقات الخام، وتنشر الاتفاقيات على مواقع الوزارة واللجنة الوطنية للشفافية في الصناعات الاستخراجية، بتفاصيلها وهي بذلك متوفرة للجميع للاطلاع عليها”.وأضاف أن تجربة موريتانيا بإنشاء الصندوق الوطني الخاص بمداخيل المحروقات كانت ناجحة وضامنة للشفافية إذ لا تخرج منه أوقية إلا بقانون المالية باتجاه الميزانية.آفاق جديدةونظرا لموقع هذه الحقول الإستراتيجي وقربها من الاتحاد الأوروبي والقارة الأميركية، فإنه من المتوقع أن تصبح موريتانيا قطبا اقتصاديا مهما في المنطقة ووجهة مفضلة للمستثمرين، مما سيسهم في انتعاش الاقتصاد المحلي، والدفع بعجلة التنمية.وتوفر شركات الغاز مئات فرص العمل للموريتانيين في عملية بناء مشروع آحميميم للغاز البئر الأعمق في العالم، ووقعت الشركات العاملة فيه أكثر من 60 عقدا مع شركات محلية بقيمة 150 مليون دولار أميركي.ويشهد ميناء الصداقة نواكشوط عملية نقل وتوزيع وتخزين المعدات والأنابيب المستخدمة في المشروع والتي من بينها 350 كيلومترا من الأنابيب، وهي حركة ستوفر دخلا للميناء يقدر بـ25 مليون دولار.لكن الكثير من الاقتصاديين في البلاد لا يتوقعون أن يكون لاستغلال الغاز تأثير قوي على الاقتصاد الموريتاني، ما لم يكن هناك دور فعّال للشركات المحلية واليد العاملة الوطنية، مؤكدين أنه سيحقق مداخيل معتبرة ولكن تبقى الشركات الأجنبية المستفيد الأكبر في ظل عجز موريتانيا عن استخراج ثروتها الغازية.