هو مسار انهياري بامتياز. فلبنان الذي يعيش أزمة متعدّدة الأبعاد، أصبح في وضع أسوأ مع بدء الأزمة الروسية – الأوكرانية وما خلفته من تبعات على الوضع الاقتصادي وخصوصًا ارتفاع الأسعار بشكل كبير، فارتفاع أسعار النفط أدى إلى قفزة في أسعار المواد الأولية والسلع الاستهلاكية والنقل فضلاً عن ارتفاع سعر القمح.
في خضم كل ذلك، فإن النزاع القضائي – المصرفي احتدم في الساعات الماضية. فالجمعية العمومية للمصارف سوف تعقد اجتماعا اليوم لمناقشة الخطوات التي ستتخذها في ما خص الاضراب الذي سيخضع للتصويت، خاصة وأن جمعية المصارف رأت أن التدابير القضائية التي صدرت بحقّ بعض المصارف وأعضاء مجالس إدارتها من قبل النائب العام الإستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون، تجاوز لحد السلطة كونها تفتقر للسند القانوني.
كانت قد أصدرت عون قراراً بوضع إشارة منع تصرّف على العقارات، والسيارات والمركبات، والأسهم والحصص في جميع الشركات التجارية، العائدة لمصارف بنك بيروت وبنك عودة وبنك لبنان والمهجر وبنك البحر المتوسط وبنك سوسييته جنرال، كما على العقارات والسيارات والمركبات والأسهم والحصص في كل الشركات التجارية العائدة لرؤساء مجالس وأعضاء مجالس إدارات هذه المصارف، ربطا بالحجز الجبري على فرنسبنك ، وصولا الى قرار قضائي صدر امس بحجز أملاك “بنك الاعتماد”، واستلحقته بقرار حجز أملاك رئيس مجلس إدارته طارق خليفة ومنعه من السفر، بالتوازي مع استجواب القاضية عون أيضاً يوم امس رجا سلامة شقيق حاكم مصرف لبنانرياض سلامة في إخبار مقدّم ضده، وتوقيفه على ذمة التحقيق.
أمام كل ذلك، فإن التوازن المالي في لبنان في وضع هشّ حيث أن الدولارات الموجودة في لبنان بالكاد تكفي الإستيراد، وكل الرهان اليوم منصب على التفاوض مع صندوق النقد الدولي للقيام بالإصلاحات الضرورية وضخ الدولارات في الإقتصاد من خلال القطاع المصرفي.
إن الملاحقات القضائية بمعزل عن الاحقية من عدمها سوف تخل، بحسب الخبير الاقتصادي والمالي البروفسور جاسم عجاقة لـ”لبنان24” بهذا التوازن الموجود وسوف تترك تداعيات على الاصعدة التالية:
على الصعيد الاقتصادي، لا شك أن ردة فعل المصارف بالإضراب أو الاقفال أو تجميد أصولها من قبل القضاء سيؤثر على قدرة الدولة على الاستيراد. فالمصارف المراسلة عندما تستشعر اي مخاطر قانونية قد تلحق بأي من عملائها، تقوم بإقفال حساباتهم فورًا، وهذا من شأنه أن يخلف تبعات سلبية على عملية الاستيراد، فضلًا عن أن عدم قدرة المواطنين على سحب أموالهم سيخفض من نسبة الاستهلاك، مما يعني إنخفاض الناتج المحلي الإجمالي تلقائيا، الأمر الذي سيؤدي إلى انكماش في الاقتصاد أكبر واكبر. علما أن ما يجري يخالف الدستور اللبناني الذي ينص على أن الاقتصاد اللبناني هو إقتصاد حر، لجهة الاستهلاك والاستثمار.
على الصعيد الاجتماعي، فإن الترقب سيد الموقف لما سيكون عليه المشهد في لبنان في حال توقفت المصارف عن العمل ولم يتمكن الموظفون لا سيما في القطاع العام والمتقاعدين من الحصول على رواتبهم واموالهم، مع اقتناع المعنيين ان من شأن هذا المستجد الخطير ان يحدث ثورة اجتماعية في البلد معطوفة على مخاطر امنية في حال فقد المواطنون قدرتهم على شراء الحاجات الأساسية والأدوية خاصة وان الدولة غير قادرة على تقديم المساعدات، وبالتالي فان القطاع العام في وضع لا يحسد عليه، هذا فضلا عن أن قسما كبيرا من العائلات التي تسحب من ودائعها الموجودة في المصارف لن تتمكن من الحصول على اموالها. أيضًا من التداعيات للملاحقات إلحاق الضرر بالودائع من باب فقدان أي أمل باستعادتها علما انه لا يمكن القول إن الأموال موجودة، لكن يمكن استردادها اذا جرى اقرار خطة تعافي قادرة على إعادة تكوين الودائع.
على الصعيد النقدي، عمليا منصة صيرفة مكونة من لاعبين أساسيين هم: المصرف المركزي، المصارف، والصرافون. ان غياب المصارف من على المنصة، سيُقلّل من عرض الدولارات وسيرفع من سعر صرف الدولار مقابل الليرة. ومن الممكن أن يؤدي هذا المستجد إلى ضرب الليرة. لذلك لا يمكن إقصاء القطاع المصرفي عن العمل وعن دوره في تأمين الدولارات. وما حصل يوم أمس في السوق الموازية يؤكد ذلك، حيث ارتفع سعر الصرف في السوق الموازية ووصل إلى 22900.
على الصعيد المالي، السؤال الجوهري، على أي أساس سوف تُقرّ موازنة الدولة ؟ فأرقام الايرادات في مشروع موازنة العام 2022 البالغة39154 مليار ليرة بالتأكيد سوف تتغير اذا توقف القطاع المصرفي عن العمل. والدولة لن تستطيع تأمين إيراداتها نتيجة تراجع الإقتصاد، وستزيد من انفاقها إجتماعيًا، وهذا سوف يرفع من عجز الموازنة المقدر بـ 10262 مليار، وعندها من سيمول هذا العجز؟ ومن أين؟ وهل سيتم اللجوء إلى طباعة الأوراق النقدية لتمويل العجز؟
بغض النظر عن واقع ما يجري، هناك منهجية يجب أن تتبع عند الذهاب إلى خيارات كهذه بحق المصارف يقول عجاقة. ففي حال تم الذهاب إلى اقفال القطاع المصرفي بالكامل، ما هي السيناريوهات البديلة؟ أغلب الظن، هذا الأمر سيؤدّي حكمًا إلى تحويل لبنان إلى دولة غير قادرة على الاستيراد أو “دولة فاشلة”، وبالتالي سيقع لبنان تحت وصاية دولة أخرى ماليًا للقيام بأي عملية مع الخارج.