“علينا أن نتعاطى ببرودة أعصاب ونواجه”. بهذه الكلمات، خاطب رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط الرأي العام، في حديث مع الاغتراب، رفع خلاله سقف “المواجهة” مع “حزب الله” إلى الحدّ الأعلى المُتاح، معتبرًا أنّ الأخير “لا يؤمن بالحوار”. وإذ تعهّد بفرض كلمته إذا حصل على الأكثرية، سأل: “هل يقتلوننا؟”، مستذكرًا تجربتي كل من رفيق الحريري ولقمان سليم وغيرهما.
لم يكتفِ جنبلاط بذلك، بل أعاد طرح “جدليّة” نزع السلاح، ولو رفض استخدام “القوة” في مثل هذه المهمّة، لأنّ “ذلك مستحيل ويورطنا في حرب أهلية” وفق ما قال، مشيرًا في الوقت نفسه، إلى أنّ الاستدامة بهذا السلاح خارج إطار الدولة غير ممكنة. ورغم تحييده “صديقه” رئيس مجلس النواب نبيه بري، إلا أنّه صوّر الأخير “ضحية” للضغوط التي يتعرّض لها، مشدّدًا على أنّه “لا يوافق دائمًا حزب الله”.
فلماذا يرفع جنبلاط سقف المواجهة إلى هذا الحدّ في هذه المرحلة بالتحديد، بعد فترة من “الهدنة النسبية” مع “حزب الله”؟ وكيف يتلقّف الأخير هجوم “البيك”، وهل يردّ عليه؟ وأيّ علاقة للانتخابات المنتظرة في غضون أقلّ من شهر بهذا الجو “المتشنّج”، وعلى وقع الحملات الانتخابية المكثّفة، في الجبل وغيره؟
“محشور انتخابيًا”
حتى الآن، لم يصدر أيّ رد رسمي من جانب “حزب الله” على كلام “البيك”، ويُستبعَد أن يصدر على الأقل بشكل مباشر، وفق ما يقول العارفون بأدبيّات “الحزب” والمقرّبون من قيادته، ممّن يشيرون إلى أنّ “الحزب” لو أراد أن يردّ على كلّ من يتناوله هذه الأيام، لما كانت الساعات الـ24 التي يتألف منها النهار كافية، بعدما أصبح واضحًا أنّ الحزب وسلاحه يشكّل مادة “مغرية” انتخابيًا للكثير من الطامحين، وربما الطامعين.
أما تفسير العارفين بأدبيات “حزب الله”، لرفع جنبلاط سقف المواجهة في هذا الوقت، فلا يعدو كونه “لزوم الانتخابات”، وفق ما يقولون، مشيرين إلى أنّ رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” في وضع لا يُحسَد عليه، بل يصفونه بـ”المحشور انتخابيًا”، خصوصًا في الجبل، حيث إنّ نجله تيمور جنبلاط لا يزال غير قادر على إثبات زعامته، فيما يلوح “خطر جديد” في الأفق، مع صعود “نجم” الوزير السابق وئام وهاب.
ويعتبر المحسوبون على “الحزب” أنّ جنبلاط يلجأ إلى رفع سقف المواجهة مع “الحزب” لضرب أكثر من عصفور بحجر، من خلال دغدغة مشاعر الجمهور “المتردّد”، فضلاً عن جمهور تيار “المستقبل” المنكفئ إلى حدّ بعيد، وبالتالي استمالته لملعبه، بعيدًا عن “المقاطعة” غير المجدية، ومن ناحية ثانية، من خلال دفع القوى الإقليمية والخارجية إلى دعمه، خصوصًا بعد عودة السفير السعودي، وما يُحكى عن “حراك انتخابي” قد يقوده في هذا السياق.
ما الجديد؟
لكنّ ما يقوله الفريق المؤيد لـ”حزب الله” عن “الاعتبارات” التي تدفع جنبلاط إلى رفع سقف المواجهة، لا يبدو مُقنِعًا بالنسبة إلى المحسوبين على “الحزب التقدمي الاشتراكي” الذين لا ينكرون البعد “الانتخابي” لكلام “البيك”، كما كلّ شيء في هذه الأيام، لكنّهم يضعونه في سياق “الثوابت والمبادئ” التي لم يَحِد عنها الحزب يومًا، وإن “تعايش” معها في بعض المحطات، انطلاقًا من “براغماتية سياسية” يحسد الجميع وليد جنبلاط عليها.
ويضيف هؤلاء أنّ المواجهة بين “الاشتراكي” و”حزب الله” ليست جديدة، وقد بدأت منذ قبل العام 2005، وليس “محض صدفة” في هذا السياق أن يكون نائب الحزب مروان حمادة أول المُستهَدفين بمسلسل الاغتيالات ومحاولات الاغتيال الطويل، ووصلت إلى أوجها بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، حين كان “البيك” رأس حربة فريق “14 آذار” ضدّ القوى المؤيدة لسوريا، وعلى رأسها “حزب الله” بطبيعة الحال.
ويذكّر هؤلاء بأنّ الموقف نفسه تقريبًا صدر عن جنبلاط عند إعلان رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري تعليق مشاركته في العمل السياسي وعدم خوضه الانتخابات، حيث كان “تحفّظ” جنبلاط مرتبطًا بإخلاء الساحة لـ”حزب الله”، وبالتالي فإنّ ما قاله بالأمس ليس طارئًا، ولو أنّهم يؤكّدون أن “المساكنة” مع “حزب الله” كانت ضرورية في العديد من المحطات، وهي لا تزال كذلك، بدليل رفض “البيك” التعامل بمنطق “القوة” مع السلاح.
قد يكون رفع سقف المواجهة مرتبطًا بالانتخابات وما تتطلّبه من تعبئة وحشد، لزوم رفع نسبة الأصوات، يقول كثيرون. لكن هناك من يتحدّث عمّا هو أبعد من ذلك، عن تأسيس لصيغة جديدة من “المواجهة” ستتبلور بعد الانتخابات، عن “معسكرات” ستنشأ بعد الاستحقاق، وترسم صورة جديدة للواقع العام في البلاد.