شكل فوز الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية إنجازا سياسيا شخصيا له بانتصاره على اليمين المتطرف الذي يتحضر للانتخابات التشريعية في حزيران المقبل بعد ان حصدت مارلين لوبان 42 % من الاصوات.وسيحاول ماكرون وهو هو أول رئيس يحظى بولاية ثانية منذ عام 2002 (فوز الرئيس الأسبق جاك شيراك بولاية ثانية)، مواجهة الانقسام الذي ظهر في المجتمع الفرنسي، خاصة وانه بالنسبة للكثير من الفرنسيين والاوروبيين يبالغ بأهمية الدور الفرنسي في الشرق الاوسط والخليج وافريقيا وباهمية انجاز تفاهم اوروبي – روسي.
يسعى ماكرون الى ملء مساحة اخلتها الادارة الاميركية في شرق البحر الأبيض المتوسط على قاعدة ان فرنسا لا تزال قوة مؤثرة في افريقيا والشرق الاوسط، وبالتالي فإن الاهتمام الباريسي في لبنان مرده منع تمادي الادوار الاقليمية في هذا البلد وهذا الامر تظهّر في جدية الدور الفرنسي ومدى الاهتمام بالوضع الراهن ومعالجة ازماته المالية والاقتصادية منذ ما بعد انفجار 4 اب، وصولا الى خطواته الخليجية في سبيل عودة العلاقات اللبنانية – السعودية الى ما كانت عليه، علما ان حراك ماكرون تجاه لبنان حظي في المرحلة الماضية بدعم اميركي وروسي وخليجي وايراني الا انه لم يؤت ثماره المرجوة. وكأن هناك قرارا بالمحافظة على الستاتيكو الحالي في لبنان لمرحلة ما بعد الانتخابات النيابية ليبنى على الشيء مقتضاه خصوصا وأن التفاهمات الفرنسية – السعودية ترمي إلى دعم احتياجات السكان المستضعفين الأكثر إلحاحا في قطاعي الصحة والأمن الغذائي.
استاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس عيسى الايوبي يقول في حديث لـ “لبنان24”: عندما انتخب ماكرون رئيسا لفرنسا لأول مرة في عام 2017 لم يكن الوضع الدولي بهذا التعقيد، بل كان يعتقد أنه يستطيع تحليل العقبات و الصعوبات التي تواجه فرنسا بشبكة علاقات دولية شرقا و غربا و عبر الأطلسي ولم يكن الناخب الفرنسي يعتقد أن للأزمات الدولية تأثيرا كبيرا على حياته اليومية وازماته الاجتماعية، بل إن النظام العقلي لرئيسه الشاب كاف لعودة البحبوحة. أما اليوم فيبدو الأمر مختلفا إن على الرئيس ماكرون أو على الشعب الفرنسي، فالنظام الدوليفي مرحلة مخاض ولادة عسير وسنوات كورونا ضربت اقتصاديات الدول الكبرى و الشعب بات اكثر وعيا لارتباط وضعه الداخلي بالوضع الدولي العام و هو ما عبر عنه ماكرون في رمزية احتفاله بالفوز الذي اختار فيه champs de Mars حقول “مارس اله الحرب” مكانا للاحتفال.
وبحسب الايوبي، فإن أمام ماكرون معارك و تحديات كثيرة على مختلف الصعد و في كل الاتجاهات ويمكن تلخيصها بـ
1- التعامل مع نظام دولي جديد يطل برأسه من أوكرانيا و الشرق الأوروبي، مع ما يترتب على ذلك من تغيير في بنية العلاقات الدولية لكل دولة و كل منظومة.
2- التزامات فرنسا في العالم الثالث والمتوسط ومن بينها لبنان و المشرق الذي كان أكبر ضحايا هذا النظام الدولي الجديد.
وعليه، فإن لبنان سيبقى والمشرق ضرورة وظيفية لفرنسا مستقبلا كما كان منذ مئة عام، وضرورة وظيفيه لدور فرنسا في أوروبا وفي العالم ايضا رغم بنينه الهشة والعطب الذي ينتابه. وهذا الواقع، بحسب الايوبي، يعرفه الرئيس ماكرون بغض النظر عن الخيبات التي تلقاها من الطبقة السياسية – المالية اللبنانية و رغم الاهتراء الذي وصلت اليه بنية النظام اللبناني، فهو كان يعلم أن ليس لفرنسا حلفاء فعليين في لبنان في هذه الطبقة السياسية التقليدية عموما وعند القيادات المسيحية خاصة، ويدرك أن هذه القيادات لا يمكن الاعتماد عليها في اي مشروع استراتيجي او جيوبوليتيكي كما راهن أسلافه من عشرينات القرن الماضي. ورغم قناعة الانتليجنسيا الفرنسية والمارونية خاصة أنه ما زال للبنان دور و سيبقى، إلا أن هذا الدور والوظيفة لا يمكن أن يتحققا في ظل هذا النظام وتركيبته الحالية.
من هنا فإن ماكرون، بحسب الايوبي، يستعد بعد انتخابه لدور تلعبه فرنسا في المشرق عامة ومن البوابة اللبنانية تحديدا، منفردا أو بالتعاون مع قوى أخرى يمكن أن تساهم في إعادة صياغة الوضع في لبنان سياسيا واقتصاديا وهو بحاجة ماسة له وهي بدورها بحاجة له وللمنطقة في علاقاتها مع أوروبا.
واذا كان الاهتراء اللبناني هو الأكبر اقتصاديا وماليا و سياسيا و يتطلب وقتا و جهدا معقدا نظرا لتجذر هذا الاهتراء فإن ماكرون لن يألو جهدا على ما يبدو في وضع أسس إعادة البناء كما فعل الجنرال شارل ديغول بعد تحرير فرنسا حيث أن أول ما فعله هو الاهتمام بالبنية التحتية للبلاد (طرق وكهرباء وماء و نظام الضمان الصحي والاجتماعي). أما في لبنان فإن البنية التحتية المطلوبة للخروج من الاهتراء تتطلب ما هو أكثر أي بنية تحتية في اي دولة (النظام والحوكمة و انبثاق السلطة ودورها) . ويبدو أن هذا أمر متفق عليه بين فرنسا وشركائها والدول المعنية بالشأن اللبناني.
واذا كانت بداية التنفيذ ستأخذ وقتا إلى ما بعد نهاية عهد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون فإن مشروع حل الأزمة، وفق الايوبي، وضع على الطاولة تحت شعار:
لا مساعدات بلا ضمانات.
لا لبنان على النمط الذي كان سائدا او يشبه الحقبة الماضية، في ظل نظام دولي وإقليمي جديد.
ويعلم ماكرون أن هذا الأمر يتطلب دعما سعوديا – إيرانيا قد حصل عليه ويبدو أن الطريق مُهدت لتحقيق ذلك. علما أن أمام المشروع المتفق عليه خمس سنوات ليتظهر وستكون مهمة رئيس الجمهورية المقبل مواكبة المشروع الذي سيحدد صورة سيد القصر. و اذا كان برلمان 22 هو عبارة عن تغيير في الأقنعة والديكور فإن العقد الاجتماعي و السياسي المطروح لن يشبه لا الأقنعة و لا الوجوه التي تغطيها تلك الاقنعة، يقول الايوبي.