رغم الخروقات العديدة والوازِنة التي حققتها “قوى التغيير” في تركيبة مجلس النواب إبّان الانتخابات النيابية الأخيرة، إلا أن الأكيد هو أنّ “الإنقلاب” الأكبر للناس على السلطة لم يتحقق بعدُ بشكل كاملٍ ووثيق.
فعليا، ما زالت أحجام القوى السياسية النيابية كما هي، حتى وإن كان هناك تراجعٌ ملموس لدى بعض الأطراف. لكنّ الثابت الوحيد حتى الآن هو أنّ الانتخابات التي حصلت، إنّما كرّست معادلة واحدة عنوانها “لا غالب ولا مغلوب”، وهو العنوان الذي أرساه اتفاق الطائف عام 1989 لإنهاء الحرب الأهليّة اللبنانية.
وسط كل ذلك، ترى أطرافٌ عديدة في المُقابل أنّ “النّصر” الأبرز في هذه الانتخابات هو في “إقصاء” حلفاء النظام السوري التقليديين أمثال إيلي الفرزلي، طلال أرسلان ووئام وهاب. وهنا، فإنّ في عدم وصول هؤلاء إلى مجلس النواب الكثير من الدلالات العميقة التي تكشف عن تبدلات قد طرأت، إما على صعيد نفوذٍ أو سيطرة.
من يقرأ أبعادَ هذا السقوط إنّما سيرى للوهلة الأولى أن هناك رموزاً مثلت خط “سوريا والمقاومة”، قد غابت عن الساحة البرلمانية. فهؤلاء هم حلفاء “حزب الله” والأقرب إليه في التوجهات ويقاتلون بـ”السّيْفين” معه، كما أنهم الأصرح والأكثر تقارباً من سوريا التي يرى أفرقاء سياسيون أن نظامها غير مرحّب به في لبنان.
ضمنياً، فإنّ غياب الفرزلي، أرسلان ووهاب يجعل الكثير من التساؤلات تطرح نفسها بقوّة: هل باتت سوريا غير قادرة على فرض معادلة انتخابية في لبنان كما السابق؟ هل ما حصل هو رسالة سورية لـ”حزب الله” عبر إقصاء الحلفاء وبالتالي إضعافه؟ هل بدأت ملامح نفوذ جديد تُرسم في المنطقة وأساسها تجريد حزب الله من حلفاء أساسيين له؟ هل كان لسوريا الدور الأكبر في إقصاء هؤلاء السياسيين من اللعبة النيابية والبرلمانية؟ هل تأثر اللبنانيون حقاً بحملة التجييش ضد حزب الله وحلفائه حتى انقلبوا ضدّهم؟ هل بات الحزب غير قادر على حماية حلفائه؟
الأسئلة كثيرة بهذا الشأن حقاً، لكنّ المعادلة الواضحة تشيرُ إلى أنّ “حزب الله” بات مُجرداً من “رموزٍ” “تخوضُ البحر معه” في مجلس النواب، وتؤيد مشاريعه وسياساته. أما الأمرُ الأهم، فهو أن عدم وجود ممثلين للخط السوري في البرلمان، قد يكشف عن “انكفاءٍ” لدمشق داخل لبنان، وقد يفسّر من جهة أخرى سعيَ حزب الله لضمان نفسه بالحدّ الأدنى من دون الإكتراث لوضع حلفائه، وكل ذلك قد يشير إلى ضعف في مكان ما. ففي ما خصّ الفرزلي، لم يتمكن الحزب من تعزيز فرصه للنجاح في البقاع الغربي، علماً أن الفرزلي تراجع شعبياً خلال السنوات الـ4 الأخيرة. أما في ما خصّ طلال أرسلان في الشوف – عاليه، فإن سقوطه كان الضربة غير المتوقعة لـخاصرة “حزب الله” في الجبل، وقد جاءت بسبب “إصرار” رئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط على ردّ الهجمة القائمة ضدّه من الحزب، إذ أن الأخير كان مصمماً على تحجيم جنبلاط انتخابياً ونيابياً، لكنه لم يُفلح في ذلك. وعلى صعيد وهاب، فإنّ الحزب خسرَ الرهان في صعوده إلى النيابة رغم الدعم والتجيير، إذ لم ينجح في ضمانِه أمام النائب مروان حماده الذي تلقى دعماً جنبلاطياً كبيراً.
وانطلاقاً من كل ذلك، ما يتأكد بشكل فعلي هو أنّ “حزب الله” أدى قسطه للعُلى انتخابياً، إذ كان همّه مناطقه بالدرجة الأولى وضمان الكتلة الشيعيّة قبل أي شيء. أما في ما خصّ الحلفاء مثل الفرزلي وأرسلان ووهاب، فإنّ نجاحهم كان سيرفع من قوّة الحزب سياسياً، لكن هذا الأمر لم يتحقّق. وعليه، فإنّ ما ينكشف هو أن الحزب لم يعد قادراً على حماية “مين إلو” في ظلّ حملة تجييش واسعة تقودها الأطراف الأخرى ضدّ من يؤيد محور الممانعة سواء عند الدروز أو لدى الأطراف المسيحية العديدة. كذلك، فإنّ ما جرى يكشف أن قدرة الحزب على التأثير انتخابياً خارج مناطقه لا تساهم في قلب واقع أو نتيجة. مع هذا، فإنّ غياب “صقورٍ” يؤيدون سوريا في البرلمان، يؤكّد حتماً أن “الدور الدّمشقي” في لبنان أصبح متراجعاً وغير قادر على دعمِ شخصيات للوصول إلى الندوة البرلمانية مثلما كان يجري سابقاً. وبالتالي، فإنّ هذا الأمر قد يسهم في “كشف ظهرِ” حزب الله سياسياً، وقد يكون الإنكفاء السوري بداية لتحجيم حزب الله في فترات لاحقة وحصرِ قوّته ضمن الطائفة الشيعية حصراً. فعلى صعيد الطوائف الأخرى، يبدو أن “حزب الله” مُنيَ بخسارة وتحديداً لدى الطائفة السنية. فسقوط فيصل كرامي وابتعاد أسامة سعد عنه يؤكد النظرية التي تقول بأن الحزب بات غير قادر على حماية حلفائه وسط عدم وجود دعم سوري كافٍ لبعضهم.
في المُحصلة، قد تكون الانتخابات الأخيرة عنواناً لتغيرات استراتيجية سيتم البناء عليها قريباً، وقد تتركُ أيضاً تبدلات محورية على الصعيد السياسي المرتبط بـ”حزب الله”. وهنا، فإن أكبر دليل على “الإرتباك” هو أن معركة رئاسة مجلس النواب التي تأتي مضمونة دائماً، لم يستطع الحزب هذه المرة حسمها مع حلفائه الأقرب إليه مثل “التيار الوطني الحر”. وبذلك، فإن وصول الرئيس نبيه بري إلى الرئاسة هذه المرة قد يكون بناء لتأييد غير مُطلق، والرهان كبيرٌ على الحزب في قلب تلك المعادلة عبر حلفائه لتحصين نفسه أولاً عبر بري الذي يعدّ “صمام أمانٍ” للحزبِ في مجلس النواب.