كتبت آمال خليل في “الأخبار”: مرّ شهران على غرق مركب يقلّ العشرات قبالة طرابلس، خلال محاولتهم الوصول بطريقة غير شرعية إلى أوروبا. الظروف التي دفعتهم إلى التهلكة لم تتغيّر.
ليس من السهل تحديد موعد مع بارعة صفوان. يومياتها مزدحمة بدوام عملها، ورعاية عائلتها، ومعاينات الأطباء و”متابعة النضال لانتشال جثتي ابنتيها من مركب الموت الغارق قبالة طرابلس”. بطلوع الروح، تصل إلى منزلها الكائن على سطح مبنى قديم في الميناء. لمرات عدة في اليوم، تستخدم الدرج الطويل المنهك. لا قدرة لها على تغيير الشقة الضيقة المتواضعة التي تعيش فيها منذ 15 عاماً. أخيراً، رفع المالك رسم الإيجار إلى مليون ليرة، يزيد عن معاشها كله. سابقاً، كان الإيجار مقبولاً على الأسرة المؤلّفة من شابين وفتاتين اضطروا جميعاً مع والدتهم للعمل باكراً لإعالة أنفسهم بعدما أقعد المرض والدهم حتى وفاته قبل نحو عشر سنوات.
منذ صغرها، اعتادت بارعة (49 عاماً) على “العيشة الصعبة” التي أجبرتها على إقناع أولادها بأن البحر هو الملاذ الأخير. فألقت نفسها معهم ومع خطيب إحدى ابنتيها، ناجي الفوّال في المركب الذي غرق في 23 نيسان الماضي قبالة طرابلس. بحرقة وبشيء من الندم، تنظر إلى صورة ابنتيها سلام الجندي (31 عاماً) وشقيقتها غالية (26 سنة) المثبتة على الطاولة في صدر البيت. هي آخر ما تبقّى لها من صور بعدما تعطّل هاتفها المحمول الذي كان في جيبها عند غرقها. برغم كلفة إصلاحه، راجعت بارعة محالَّ عدة أملاً باستعادة الصور والرسائل الصوتية لابنتيها. هي، وابناها مصطفى وإبراهيم وصهرها ناجي الفوال، كانوا أول الناجين وأهالي الضحايا الذين تحرّكوا باتجاه القضاء. لم يتجرأ كثر من زملائهم على مجابهة الدولة. لكن بالنسبة إلى بارعة “لم يعد لديّ ما أخسره. فقدت ابنتَيَّ، فممّ أخاف؟”. مع ذلك، تريّث المدّعون قبل تقديم الشكوى شهرين كاملين. “انتظرنا تحرّك الدولة لانتشال أحبائنا وإعلان نتائج التحقيقات التي كانت مديرية المخابرات تقول إنها تجريها مع الجنود الذين كانوا على متن الزوارق التي طاردت مركبنا وضربته ثلاث مرات حتى أغرقته”.
علامَ الندم؟
كأنها على كرسي الاعتراف، تستذكر بارعة التجربة من دون سؤال. قلب الأم لن يسمح لها بالنسيان. كذلك شرفة منزلها المشرفة تماماً على مرفأ طرابلس وجزرها. “ابني مصطفى لم يكن يرغب بالسفر بهذه الطريقة، برغم أنه هنا لا يملك سوى بسطة. أنا وابنتي سلام كنا خائفتين. لكنّنا حينما صعدنا إلى المركب ووجدنا بأن معظم رفاق الرحلة أطفال ونساء، هدأنا وقلنا حياتنا ليست أغلى من حياة هؤلاء الأطفال” قالت. يعزّ عليها أن تكون قد نجت فيما علقت ابنتاها في المركب الذي غرق على عمق 470 متراً. لا شيء يشعرها بالندم أكثر من هذا. “كيف أندم على رمي عائلتي في البحر بعدما اختنقنا هنا. جهاز العروس لابنتي غالية المحفوظ في (التتخيتة) منذ أن خطبت ناجي قبل ست سنوات، خرّبته الرطوبة. وافقت على السفر معنا لأنها ستتمكن من ارتداء الفستان الأبيض في أوروبا”.