عبثاً يحاول “حزب الله” اعادة عقارب الساعة الى الوراء، وعبثاً يحاول لبنان تعويض ما أهدره من وقت وفرص في ما يتعلق بحصته من الثروة البحرية في مياه البحر الأبيض المتوسط…
فما كُتب قد كُتب ليس بقرار اسرائيلي وحسب، بل بقرار دولي هذه المرة مدعوماً بكل الوسائل التي يمكن أن تسحب الغاز من حقول اسرائبل الى أوروبا وفي مقدمها الوسائل العسكرية البحرية والجوية معاً.
اسرائيل تعرف ذلك وكذلك “حزب الله” وكل جهة معنية بنقل الغاز الجديد الى العالم الغربي الساعي الى حرمان روسيا من ورقة حياتية جوهرية طالما عزز بها اقتصاده واستخدمها في اطار الصراع الاستراتيجي القائم في أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وليست المسيرات الثلاث التي أطلقها “حزب الله” في اتجاه المنطقة الاقتصادية الاسرائيلية محاولة لاشعال حرب ضد الدولة العبرية التي يتردد أنها بعثت برد “ايجابي” على طروحات لبنان الحدودية، بقدر ما هي لتسجيل ثلاث رسائل متوازية: الأولى تعويم سلاحه النائم واستعادة هيبته لدى الرأي العام اللبناني عشية استحقاقين جوهريين هما السعي الى حكومة ممانعة يمكن أن تملأ أي فراغ محتمل في السلطة التنفيذية، وانتخاب رئيس أكثر ميلاً الى الممانعة منه الى أي أداء ملتبس أو مشاغب. والثانية إفهام مؤتمر وزراء الخارجية العرب في بيروت أن الكلمة الفصل في لبنان تعود في الدرجة الأولى الى الجمهورية الاسلامية في ايران، وأن أي محاولة لاعادة تعريب الجمهورية اللبنانية لن تمر. والثالثة، إفهام الأميركيين أن المماطلة في ابرام اتفاق نووي جديد مع ايران، وإفهام اسرائيل أن الضربات التي توجهها في العمقين الايراني والسوري، لن تبقيا طهران مكتوفة الأيدي طويلاً، وأن الثأر المباشر أو عبر سواعدها العسكرية المنتشرة في المنطقة لا بد أن يأتي في الوقت المناسب.
وأكثر من ذلك، شكلت المسيرات الثلاث رداً غير مباشر على المساعي التي تبذلها السعودية لاقامة “ناتو” عربي في مواجهة ايران، واشارة أولى الى انطلاق محور مضاد تدعمه ايران ويقوده “حزب الله” وحركة “حماس”، الى جانب الحوثيين الذين بدأوا تحركات على الأرض توحي بأن الهدنة الهشة القائمة في اليمن قد تنهار في أي لحظة.
وما يعزز هذا الوااقع، اطلاق مسيرات غير مسلحة في خطوة فسرها المراقبون العسكريون بأنها مجرد “عرض عضلات” يأتي في توقيت حساس، ويسبق وصول الرئيس الأميركي جو بايدن الى السعودية واسرائيل في زيارة تستهدف الاتفاق على كل ما يلزم للجم ايران، وايجاد مصادر طاقة بديلة للغاز الروسي المتقلص في مكان والمحظور في آخر.
ويتفق الكثير من المراقبين على أن الادارة الأميركية ومعها حلف الأطلسي لن يوفرا أي وسيلة لضرب عصفورين بحجر واحد وهما تحجيم روسيا وتطويق الصين في درجة أولى، وسحب مخالب ايران وكوريا الشمالية في درجة ثانية.
من هنا، يجمع المراقبون على أن الجنون وحده يمكن أن يجر ايران و”حزب الله” الى الحرب في هذا الوقت بالذات، مؤكدين أن أي حرب قد تقع قرب مصادر الغاز، لن تشبه “حرب تموز” في العام ٢٠٠٦ لا على مستوى الحجم والسلاح ولا على مستوى المشاركين فيها.
وأضاف هؤلاء أن “حزب الله” سيجد نفسه وحيداً في مواجهة العالم كله، ولن يجد أي دولة أو أي منظمة دولية أو عربية، مستعدة للوقوف الى جانبه أو حتى للتوصل الى هدنة أو وقف لاطلاق النار قبل الوصول الى غالب أو مغلوب، وقبل التأكد من أن أي محور أو حزب أو تيار أو حركة مسلحة لن يكون قادراً على تهديد ما يعتبره الغرب أوكسجين حياته الاقتصادية ومصدر ازدهاره وتطوره.
ويكشف مصدر ديبلوماسي غربي أن الوقت لن يطول قبل رؤية السفن الأميركية والأطلسية وهي تنتشر في منطقة البحر الأبيض المتوسط تحسباً لأي خطر قد يهدد حقل “كاريش” سواء جاء من حسن نصرالله أو من اسماعيل هنية العائد من بيروت الى غزة بعد زيارة تنسيقية مع “المقاومة الاسلامية” أو من “الحرس الثوري” الذي قد يحاول توجيه ضربة الى المصالح الإسرائيلية رداً على الضربات المتتالية في عمق ايران وداخل الأراضي السورية.
فهل يتغلب الجنون على الحكمة، أم أن المأزق الايراني وفائض القوة لدى “حزب الله” قد يجرانهما الى الميدان – المكمن الذي يعده لهما العالمان العربي والغربي معاً؟
في الانتظار، وفي وقت عكرت المسيرات موسم السياحة في لبنان ووضعت اللبنانيين في مواجهة حرب مدمرة مع اسرائيل والعالم الحر، لا بد من سؤالين رئيسيين: لماذا لم يضع “حزب الله” نفسه خلف أي قرار تتخذه الحكومة كما أوضح في عز أزمة “كاريش”، ولماذا يتهور الاَن في عز الكلام عن انفراجات؟ وماذا لو تبين عكس ما يخطط له حسن نصر الله، أي وجود نية اسرائيلية – غربية – عربية مشتركة لشن ما يؤمل أن تكون اَخر الحروب في الشرق الأوسط، وهي الحرب التي قد يخرج أحدهم منها جريحاً والاَخر قتيلاً؟
وأكثر من ذلك، لا بد من سؤال جوهري آخر، هل استيقظ “حزب الله” بعدما لمس وجود فرصة جدية لطي ملف الحدود البحرية، وسحبه من خانة النقاط الساخنة التي يتسلح بها للاحتفاظ بسلاحه؟
وسط هذه التساؤلات يواصل الرئيسان ميشال عون ونجيب ميقاتي سياسة “التطنيش” ويمارسان لعبة القط والفأر، في محاولة من الأول للخروج جسدياً من القصر الجمهوري والبقاء فيه بالواسطة، ومن الثاني لابلاغ من يعنيهم الأمر أنه نجح في كسر عون وصهره جبران باسيل حيث فشل الاَخرون، وأن الزعامة السنية لن تكون الا من حقه أو على الأقل من حصته.
والواقع أن عون لن يعطي في آخر عهده ما لم يعطه في أول عهده، وأن ميقاتي لن يتزعم السنة ما دام التوقيع الرئاسي لن يعطيه راية النصر، وما دام القرار الحاسم في يد الثنائي الشيعي وليس في يده، وما دامت الغالبية النيابية الجديدة مسألة مطاطة قد تكون موالية اليوم وقد تكون معارضة غداً.
وأخيراً… المسيرات الثلاث سقطت في الجو هذه المرة، فماذا لو سقطت على سفينة التنقيب اليونانية أو على حقل “كاريش” نفسه؟
الجواب ليس صعباً، اذا عرفنا أن الفريقين يقيمان فوق أرض بحرها من غاز ورملها من بارود…