اعتاد الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله في اطلالاته الاعلامية أن يبيح لنفسه اتخاذ قرارات تتعلق بالسلم والحرب، معللاً موقفه لبيئته، مرهّباً معارضيه، ومهدداً أعداءه. ولا يتردد نصرالله في جرّ اللبنانيين إلى حروب مدمّرة لحسابات ايرانية من أجل فك عزلتها الدولية والاقليمية على حساب دماء اللبنانيين.
من المعروف أن مغامرات “حزب الله” وتموضعه في محور المقاومة سبّب للبنانيين الويلات والكوارث، بل ان سلاحه شرذمهم وقسّمهم وجعلهم يحلمون بمغادرة لبنان. هو لا يقيم وزناً لردة فعل اللبنانيين، ولا يقيم اعتباراً للدولة اللبنانية، وما يُفهم من كلامه أن هاجسه الوحيد أن يكون لبنان جبهة أمامية لايران، وهذا الأمر قاد لبنان إلى الانهيار والعزلة والحروب والفشل والفقر والأزمات المفتوحة.
ولم يعد سراً أن مفاوضات الترسيم البحري حققت تقدماً مهماً في الأسابيع الأخيرة، وما هو عالق مجرد تفاصيل، لذلك قرر “حزب الله” الدخول عليها للعرقلة والخربطة، فأرسل مسيّراته “من دون شور ولا دستور” نحو حقل “كاريش” أولاً، ثم هدد بالحرب ثانياً، محاولاً إقناع بعض الساذجين بأن معادلة القوة التي يمثلها يجب الحفاظ عليها، وذلك بعد أن لمس في الانتخابات النيابية الأخيرة حجم الاعتراض اللبناني ضده وفي كل البيئات من دون استثناء.
لا أحد من اللبنانيين سوى بيئة “حزب الله” الضيّقة يريد أن يكون لبنان دولة في الصف الأمامي للمقاومة في وجه الكيان الصهيوني، يعني ما يُترجم بوضوح في خطف “الحزب” للدولة اللبنانية وإرادة اللبنانيين بقوة السلاح الايراني.
العالمون بتفاصيل الحركة السياسية الاقليمية يعرفون أن تهديدات نصرالله بالحرب ليست جدية، بل هو يدرك قبل غيره أن ظروف أي حرب يقدم عليها ليست مؤاتية له لا في ظروفها الاقليمية مع خروج النظام السوري من دائرة الفعل والتأثير، والصعود السعودي مع الأمير محمد بن سلمان الذي يهندس ويقود النظام العربي الجديد، ونشوء محور اقليمي يعتبر اسرائيل حليفة وايران عدوة، ولا في ظروفها المحلية مع الانهيار المالي الذي لا يسمح للشقيق بأن يستقبل شقيقه، أي في غياب أي بيئة لبنانية حاضنة لاعتبارات معيشية وسياسية أيضاً. هناك غياب تام لأي تفهّم سياسي لمغامرة يسمح فيها “حزب” بمصادرة قرار طائفته، وجر البلد إلى حرب مدمرة لحسابات ايرانية من أجل فك عزلتها الدولية والاقليمية على حساب دماء اللبنانيين.
الموضوع مستفز للبنانيين، لكن يبقى السؤال الأهم: كيف يواجه اللبنانيون هذا الأداء المتمادي المهيمن الذي يحرمهم من العيش الكريم ويضرب استقرارهم ويضع القرار الرسمي اللبناني في أحضان ايران؟
أتت فرصة محاسبة نهج “حزب الله” من خلال الانتخابات النيابية التي أظهرت مساحة الاعتراض الشعبية الواسعة على دور “الحزب” وخصوصاً عبر تراجع حضوره داخل البيئة المسيحية والسنية والدرزية، لكن عدم تناسق القوى السياسية المعارضة وتشتتها في تكتلات لها رؤى مختلفة أبطل فعاليتها، مما سمح لـ”الحزب” بالمحافظة على تماسكه وتحريك ما لا يقل عن 60 نائباً يدعمونه، ولعل انتخاب هذا العدد من النواب المتعاطفين مع “الحزب” يثير الاستغراب في حد ذاته، ويطرح علامات استفهام حول الوعي السياسي لبعض الفئات الشعبية.
تعتبر المعارضة الشيعية لخط “حزب الله” السياسي الأكثر استفزازاً له، لذلك يتعامل معها بخشونة وأحياناً يلجأ إلى العنف، وهو يطلق عليها تسمية “شيعة السفارات”، ومن أبرز المعارضين كان المعارض لقمان سليم الذي تعرّض للإغتيال في مناطق تحت سيطرة “الحزب” منذ عامين، إضافة إلى مجموعة أسماء أخرى بارزة لا توافق على أدائه وتبعيته لايران، أهمها المفتي الجعفري السابق لمدينة صور علي الأمين الذي يتعرّض لحملات ممنهجة من “الحزب” تخوّنه وتحاول أن تجعله منبوذاً، ومع ذلك لا يزال الأمين الصوت الصارخ في برية “الحزب”. الاسم الثالث الحاضر بقوة هي الاعلامية ديما صادق التي لا تقصّر في انتقاد “الحزب” ومواقف نصرالله بالذات، لذلك تشن ضدها حملات على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل الجيش الالكتروني لـ”الحزب”، لمجرد أنها تملك رأياً مخالفاً له.
وبمجرد أن يحاول الصحافي والباحث قاسم قصير أن يكون موضوعياً أحياناً ويوجّه انتقادات ناعمة الى “الحزب” على الرغم من أنه من المقربين له يتحوّل إلى خائن في نظر الموالين لـ”الحزب” ومناصريه، وينال نصيبه من حملة تشويه السمعة والتهديد، حتى يجبر على التراجع عن تصريحاته. أما الاسم الأخير الذي يعتبر رأس حربة شيعية ضد “الحزب” فهو الصحافي علي الأمين الذي ترشّح مرة للانتخابات النيابية في معقل “حزب الله” في منطقة بنت جبيل في جنوب لبنان، إلا أنه تعرض لتهديدات بالقتل مصدرها عناصر في “الحزب”. وقد تعرّض عام 2018 فعلاً لاعتداء بالضرب في منزله في الجنوب، وأعلن في مقطع فيديو أنه “تعرض لكمين من قبل أكثر من 30 شخصاً محسوبين على حزب الله”، واصفاً اياهم بـ”البلطجية”.
إذاً تتعرض أي معارضة شيعية لـ”الحزب” للقمع والترهيب، لذلك لا يمكن أن تتوسّع في ظل هذه الأجواء العنفيّة، مع ذلك، استطاع كثيرون من الشيعة كسر حاجز الخوف عبر الامتناع عن التصويت في الانتخابات الأخيرة، والوضع الاقتصادي والمعيشي ساهم في نمو المزيد من النقمة ضد “الحزب”.
لا يختلف اثنان على أن الجهة المسيحية الأكثر قوة وتمثيلاً في معارضة مشروع “حزب الله” هي “القوات اللبنانية” التي تعتبر الحزب الأكثر تنظيماً وتؤمن بالاستحقاقات الدستورية للتخفيف من فعالية “الحزب” وإضعافه في المؤسسات، لكن “القوات” من دون تحالفات مع تكتلات أخرى ومجموعات سيادية وتغييرية لا يمكنها أن تغيّر في المشهد السياسي كثيراً، لذلك هي تحاول أن تمد جسوراً مع قوى المعارضة والتنسيق بينها، إلا أن مهمتها صعبة لأن أولويات هذه القوى تبدو مختلفة أحياناً. لكن “القوات” تمكنت من تسجيل خرق في التقارب مع حزبي “الكتائب” و”الوطنيين الأحرار” والحزب “التقدمي الاشتراكي” وبعض الشخصيات السيادية مثل اللواء أشرف ريفي وفؤاد مخزومي وميشال معوض وآخرين.
تبدو الكنيسة المارونية في مقدمة المعارضين لمشروع “حزب الله” الذي يضع لبنان على خط الزلازل السياسية في المنطقة، لذلك رفع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي البطاقة الحمراء في وجه “الحزب”، مطلقاً مشروع الحياد الناشط مطالباً بمؤتمر دولي من أجل لبنان، وكان بديهياً أن يلقى نداء البطريرك ترحيباً من أكثرية القوى السياسية المعارضة، وأزعج “الحزب” كثيراً، وعلى الرغم من تكرار نداءات البطريرك في هذا المجال، بقيت مجرد أمنيات، تحتاج أن تتبلور بتبنٍ دولي من عواصم القرار لها، إلا أنها تبدو غير مقتنعة بهذا الطرح أو منهمكة في تأمين مصالحها أولاً أو أن لبنان ليس في أجندتها!.
من جهة أخرى، تصنّف القوى التغييرية التي تمثّل ثورة 17 تشرين في الجانب المعارض لـ”حزب الله”، لكن الوقائع أثبتت أن هذه القوى ليست موحّدة من ضمن مشروع واحد، بل لكل نائب ومجموعة رؤية سياسية خاصة وأولويات مختلفة، مما جعلها حتى اليوم ضعيفة التأثير، إذ تعتبر نفسها أكثر شفافية ونزاهة من الأحزاب والشخصيات السياسية المعارضة، وهذا ما يستفيد منه “الحزب”، علماً أن جماهير الثورة حتماً لا تنسجم تطلعاتها للبنان الدولة المعاصرة مع طروحات “الحزب”.
أما تيار “المستقبل” الذي أعلن رئيسه سعد الحريري تعليق نشاطه السياسي فيعتبر من القوى السياسية المعارضة لمشروع “حزب الله”، وخصوصاً أن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أثبتت تورّط عناصر من “الحزب” في عملية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشخصيات عدة من قوى 14 آذار مثل جبران تويني وسمير قصير وبيار الجميل ووليد عيدو ومحمد شطح ووسام الحسن وغيرهم.
ارتأى تيار “المستقبل” الممثل الأقوى سياسياً للطائفة السنية الانسحاب من المشهد السياسي بعدما اعتبر أن مواجهة “حزب الله” سياسياً قد تؤدي إلى حرب أهلية، فيما عواصم القرار غير مهتمة بالشأن اللبناني، وبالتالي لا جدوى من معارضة طالما التسوية الاقليمية والدولية المطلوبة لوضع حد لسلاح “الحزب” واستمرار هيمنته ليست جاهزة.
ويشكّل الحزب “التقدمي الاشتراكي” جزءاً من المعارضة، ولو كانت معارضة غير حديدية أحياناً، لجهة استعداده للقبول بتسويات وأنصاف حلول حرصاً على البلد وخوفاً من التقسيم.
أمام هذا الواقع الكارثي الذي يسببه “حزب الله”، تكتلت مجموعات حزبية وشخصيات سيادية وشكّلت “الجبهة السيادية من أجل لبنان” بمبادرة من حزب “الوطنيين الأحرار”، وأعلنت الجبهة صراحة معارضتها لـ”الحزب” وحددت توجهاتها السياسية ضد سلاحه ومع تطبيق القرارات الدولية والتحقيق الدولي في تفجير المرفأ!.
وليس بعيداً عن توجهات هذه الجبهة نشأ “المجلس الوطني لرفع الاحتلال اللبناني” الذي يرأسه اليوم الدكتور فارس سعيد ويضم أكثر من 200 شخصية سياسية واقتصادية وحقوقية وإعلامية لبنانية، واعتبر مؤسسو هذا المجلس أنه محطة للمراكمة في مسيرة طويلة، غايتُها تحقيق السيادة والاستقلال الناجزين.
هذا غيض من فيض المجموعات المعارضة لمشروع “حزب الله”، لكن ليس صعباً أن يلاحظ المتابع أن حالة من الشرذمة والتشتت تسود هذه المعارضة التي لا يمكن اعتبارها موحّدة حول مقاربة مشتركة في مواجهة مشروع “الحزب”، بل يصلح فيها القول المأثور “كل يغني على ليلاه”، وهذا ما يريح “الحزب” الذي يبرز كقوة متماسكة مع حلفائه مثل حركة “أمل” و”التيار الوطني الحر” وتيار “المردة” والحزب “السوري القومي الاجتماعي” وشخصيات مستقلة تدور في فلك الممانعة.
لا شك في أن “الحزب” قوي لكن تشتت قوى المعارضة يشكّل أحد مصادر قوته، فلنفترض أن هذه المعارضة بكل قواها منسجمة مع بعضها في مشروع مناقض لـ”الحزب” معياره المصلحة اللبنانية والسعي إلى تعزيز مفهوم الدولة القوية لتحريرها من الهيمنة ومصادرة قرارها لمصلحة ايران. فالمواجهة السياسية تتطلب توحّد هذه المعارضة في جبهة واحدة وواضحة في روزنامتها، عندها لا بد من أن تلاقي آذاناً صاغية من المجتمع الدولي لتطبيق القرارات الدولية مهما كان الثمن، أما الشرذمة فتجعل هذه المعارضة مجموعة معارضات غير جدية وغير مؤثّرة، مما يجعل “حزب الله” يكسب عليها بالنقاط، وهذا ما حصل في انتخابات رئاسة المجلس ونائب رئيس المجلس وهيئة مكتب المجلس، وها هو الاستحقاق الرئاسي على الأبواب، فهل تتعظ قوى المعارضة وتحقق آمال الشعب المقهور والمذلول؟