من استمع الى مواقف حسن نصرالله الأخيرة يخطر في باله سؤالان أساسيان:
أولاً أين هي الدولة التي قال إنه يمشي خلف قراراتها؟ وثانياً هل يظن أنه وحده يملك السلاح وأن الساحات خالية له، وأن عدوه أو أعداءه عُزَّل أو هواة أو دونه قدرةً وفاعلية…؟
وثمة سؤال آخر: كيف تُجرى حسابات “حزب الله”، وفي أي بيئة جيوسياسية؟ ومن هم مستشارو نصرالله وخبراؤه وراسمو الاستراتيجيات القصيرة والبعيدة المدى الذين يضعونه دائماً في خانة “المنتصر الدائم” الذي لا يعرف الانكسار ولا الهزيمة؟
نسأل كل هذا لأن من يسمع خطاب حسن نصرالله لمناسبة عيد الأضحى، يظن الكون من أقصاه الى أقصاه متقوقع في الضاحية الجنوبية، وأن الكرة الأرضية خاضعة لسيطرة مسيرة تنطلق من هنا أو هناك، وأن أميركا ليست الا نمراً من ورق لا تقوى على الصمود أمام زورق من زوارق “الحرس الثوري”، وأن الرئيس جو بايدن رجل عجوز لا يضاهي “شباب” الامام علي خامنئي، وأن العالم بات قاب قوسين أو أدنى من الوقوع في قبضة ايران وثورتها الاسلامية…
ومن يسمع خطاب الرجل يظن أن الحروب تخاض من طرف واحد، وأن الدمار يلحق بطرف واحد، وأن النصر معقود حكماً لطرف واحد، وأن الله مكرّس لطرف واحد، وأن من يسقط في اسرائيل والسعودية والامارات لا يسقط في لبنان وأن ما يحترق في تل أبيب والرياض وأبو ظبي لا يحترق في بيروت.
ونسأل: هل يعرف حسن نصرالله أنه قد يذهب الى الحرب هذه المرة وحيداً بلا شعب ولا مأوى ولا مؤن ولا تعاطف ولا تفهم ولا صبر ولا حتى صلاة قد تأتيه من غير بيئته وعرابه الايراني؟
وهل يعرف أن اسرائيل قد لا تكون وحدها في أي حرب مع “حزب الله” وحتى مع ايران، وأن الغرب من أقصاه الى أقصاه لن يوفر أي وسيلة من أي نوع للحصول على الغاز الاسرائيلي في وقت يتجه الى اغلاق الأنابيب الآتية من روسيا؟
وهل يعرف حسن نصرالله أن ثمة قراراً دولياً بلجم ايران وكل أذرعها العسكرية المرابطة في غير مكان ومنها “حزب الله” في نوع خاص، وهو ما برز في حصيلة “المصالحة” الأميركية – السعودية أخيراً، وفي مؤتمر الأمن والتنمية في جدة؟
وليس المقصود هنا التقليل من شأن القوة العسكرية التي يملكها “حزب الله” وحجم الضرر الذي يمكن أن يلحقه بجيش اسرائيل ومنشآته ومواقعه الاستراتيجية، لكن المقصود القول إن بدايات الحرب لا تكون دائماً كما نهاياتها، وإن تواقيتها لا تكون دائماً كما تشتهي عقارب الساعة، وإن مناوشات بسيطة على شكل رسائل يمكن أن يحولها الأعداء الى ذريعة لحرب واسعة قد لا تنتهي الا بغالب ومغلوب.
لقد انتقل “حزب الله”، سواء عن حق أو باطل من عبء محلي يتجاهل وجود جبش نظامي وغياب إجماع وطني في بلاده، الى عبء اقليمي من خلال التحول الى فصيل ايراني يكاد يضاهي في قوته “الحرس الثوري” نفسه، والى عبء دولي متراكم يضرب عرض الحائط بالتوازنات والأحلاف العالمية المعقدة في مكان والمترابطة في آخر.
لقد ظل العالم الغربي يتعامل مع “حزب الله” من بوابة بعيدة بعض الشيء عن أي صدام مباشر، ويغض الطرف عن الكثير من تجاوزاته سواء على مستوى التفجيرات والتهريب وتبييض الأموال وسواها، مفضلاً الانفتاح بدل الانقضاض، لكن هذا الأمر يكاد يسقط مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا ومن خلالها على مصادر الطاقة الأوروبية، ومع استمرار الضغط الايراني على أمن اسرائيل من جهة وآبار الخليج من جهة ثانية.
والواقع أن “حزب الله” لن يجد في كل أوروبا صوتاً واحداً ينصره اذا حاول منع الغاز الاسرائيلي من العبور من حقل كاريش، وربما لن يجد دولة أوروبية واحدة تؤثر الحياد على القتال دفاعاً عن مصالحها الاقتصادية ورفاهية شعوبها.
وما يزيد الطين بلة في هذا المجال أن ايران تتجه الى بيع روسيا مسيرات يمكن أن تقلب المعادلات العسكرية في أوكرانيا رأساً على عقب، وهو ما تعتبره الدول الغربية والولايات المتحدة إعلان حرب غير مباشر يشبه ما تفعله بيلاروسيا لمصلحة موسكو، خصوصاً بعد تردد أنباء تفيد بأن عناصر من “حزب الله” قد يشاركون في عمليات التدريب وربما الاطلاق تماماً كما كانوا يفعلون انطلاقاً من اليمن ضد السعودية ودولة الامارات.
وما يجهله “حزب الله” ربما أن الغرب في حرب أوكرانيا، لم يطلق طلقة واحدة، ومع ذلك لم تسقط حتى الآن أمام ثاني أعتى قوة عسكرية في العالم، وأن هذه الحرب تحديداً أعادت أميركا الى الشرق الأوسط لتبني مع اسرائيل ودول عربية حلفاً عسكرياً واقتصادياً في مواجهة ايران وحلفائها فضلاً عن روسيا والصين.
وما جرى في أوكرانيا لن يجري في الشرق الأوسط وآسيا وسط صحوة أميركية وعالمية تقضي بمنع ايران من السيطرة على المنطقة أو تقويض استقرارها وتهديد ثرواتها، ومنع الصين من السيطرة على تايوان والانفلاش صوب العالم العربي بطريقة أو بأخرى.
وما جرى في جولة الرئيس الأميركي جو بايدن على كل من اسرائيل والسعودية، يؤكد أن ما كان في الأمس واقعاً يمكن أن يحل عبر المفاوضات أو التسويات السهلة تحول الى عقدة أو لغم يجب فكه بأي طريقة ممكنة، وهو ما برز جلياً في تحذيرات بايدن التي طاولت ايران وبرنامحها النووي وحرسها الثوري وأذرعها العسكرية، وفي قمة جدة التي كانت بمثابة حلف عربي – أميركي مدعوم من اسرائيل بطريقة غير علنية في مواجهة التحديات التي تنطلق من الجمهورية الاسلامية في ايران.
ويكشف مراقبون غربيون أن ما جرى في جدة ليس تحركاً شكلياً يكتفي باتخاذ صورة تذكارية كما حدث كثيراً في مرات سابقة، مؤكدين أن الشرق والغرب وصلا معاً وفي توقيت واحد الى اقتناع بأن دور العمليات الجراحية قد حان خصوصاً بعدما انتقلت النار من المسافات البعيدة الى عقر الدار، وأن الوقت حان لالقاء مظلات أمنية واقتصادية فوق دول هشة، لكن حيوية، وبينها لبنان القابع في زوايا “حزب الله” وايران وخط الممانعة.
ولا يعني كل ذلك أن نصرالله يتجه الى الحرب ولا يعني أن الحرب على ايران باتت مسألة وقت، بل يعني أن “حزب الله” يمارس لعبة التهديد الاستباقي في حين يمارس المحور الآخر لعبة التحذير الأخير.
وما يعزز هذه الفرضية، إعلان النائب محمد رعد أن “حزب الله” لا يريد الحرب، لكنه مستعد لخوضها، وهو ما لم يبرز في مواقف كل من أميركا واسرائيل عندما أوحيا بأن لا استقرار في المنطقة ما دامت ايران على سلاحها.
ويرى الخبراء أن خطاب نصرالله كان يهدف أولاً وبايعاز ايراني الى إسماع صوت الوعيد للرئيس الأميركي الموجود في اسرائيل المجاورة، وإفهام السلطة اللبنانية أن لا شيء يمر في لبنان من دون توقيعه، مشيرين الى أن الرجل حاول أن يؤكد لمعارضي سلاحه أن أي موقف ايجابي يأتي من اسرائيل في شأن الحدود البحرية، انما جاء بفضل هذا السلاح وليس بفضل أي شيء آخر، وأن أي تعقيدات أو تهديدات أو تعديات لا يمكن أن تزول الا بفضل هذا السلاح أيضاً.
ونعود الى النائب رعد الذي حاول في ما يبدو تلطيف اللهجة العالية في خطاب نصرالله، عندما ربط الحرب المحتملة بأي خطأ قد ترتكبه اسرائيل، متجاهلاً أن هذا الخطأ وقع قبل سنوات عندما بدأت الدولة العبرية تتصرف بحقل كاريش وكأنه قطعة أساسية من ممتلكاتها الطبيعية، من دون أن يحرك “حزب الله” ساكناً.
لماذا الآن، كل هذا؟ يسأل أحد الخبراء، والجواب أن ايران لم تعد قادرة على تحمل الخناق الاقتصادي الذي تعانيه منذ سنوات خصوصاً بعدما تحولت ثروتها النفطية الى حاجة عالمية ملحة، وأن الغرب لن يسمح بالعودة الى العصور البدائية في وقت يرى في غاز اسرائيل ترياقاً شبه وحيد أو شبه أساسي، وأن العرب، وتحديداً السعودية، تحولوا من مجرد روافد للغاز والنفط الى مالكيهما الأساسيين في لحظة لا تحتمل أي تجاهل يأتيهم من الغرب ولا أي خطر يأتيهم من ايران، وأن الجميع باتوا يدركون أن ترف الوقت المهدور أو المائع سينتهي الى انتاج قنبلة نووية ايرانية.
انها اللحظة التي تتداخل فيها الجيوش أكثر مما تتداخل الديبلوماسيات، واللحظة التي تنتظر واحداً من طرفين: طرف يمكن أن يقدم المبادرة الأولى وطرف يمكن أن يطلق الطلقة الأولى.
حتى الآن يمكن القول ان بايدن وقمة جدة نصبا كميناً في الشرق الأوسط لكل من ايران أولاً وروسيا والصين ثانياً، ويبقى أن نعرف من يدوس عليه أولاً.