يتجه اليوم لبنان إلى التخلي قريباً عن نظام السرية المصرفية الذي يعتمده منذ ستة عقود ونيف، في اطار التماهي مع المتطلبات التي تم التوافق على التزامها من قبل السلطتين التنفيذية والتشريعية، توطئة لتحويل صيغة الاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي إلى اتفاقية برنامج تمويلي بقيمة 3 مليارات دولار على مدى 4 سنوات.
لقد اقر مجلس النواب امس التعديلات على قانون السرية المصرفية المطلوبة من صندوق النقد الدولي.
ولحظت التعديلات توسيع قاعدة رفع هذه السرّية لتشمل ، إلى جانب “الإذن الخطي من صاحب الشأن أو ورثته أو الموصى لهم أو إذا أعلن إفلاسه أو إذا نشأت دعوى تتعلق بمعاملة مصرفية بين المصارف وزبائنها”، مراجع رسمية أخرى وردت في المادة السابعة من القانون بعد تعديلها.ويخضع القانون الحسابات الرقمية وتأجير الخزائن للإجراءات ذاتها المعتمدة في فتح الحسابات العادية لجهة نموذج فتح الحساب واستطلاع رأي دائرة الامتثال في المصرف كما تخضع كل عملية إيداع فيها وتحويل إليها لإجراءات التدقيق المقرّرة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب 44/2015. ونص التعديل ايضا على إمكانية تجميد اموال وموجودات الزبائن في المصارف وحجزها في حالة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وفي حالة جرائم الفساد والإثراء غير المشروع.
وعليه بات رفع هذه السرّية متاحاً للقضاء المختصّ في دعاوى الفساد والجرائم المالية ودعاوى الإثراء غير المشروع، ولهيئة التحقيق الخاصّة في ما خصّ مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في ما خصّ مكافحة الفساد، وللإدارة الضريبية.
ما هو مفهوم السرية المصرفية؟
يندرج السر المصرفي بحسب ما يقول الخبير الاقتصادي والمالي بلال علامة لـ”لبنان24” بمعناه الواسع في إطار سر المهنة، وتحديدًا الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم افشاء الأسرار المصرفية المتعلقة بزبائنه والتي آلت إليه بحكم وظيفته أو بمعرض قيامه بهذه الوظيفة، وهذا الموجب فرضته نصوص عامة، كنص المادة 579 من قانون العقوبات اللبناني.أما السرية المصرفية بمعناها الضيق فهي الموجب الملقى على عاتق المصرف بعدم افشاء الأسرار التي حازها بفعل وظيفته، ولكن بموجب نصوص قانونية صريحة تفرض التكتم وتعاقب الإفشاء.
وتفرض الأنظمة المصرفية المعتمدة في مختلف الدول، السرية على العمل المصرفي، ولكن بدرجات متفاوتة، كما تحرص البنوك على عدم تقديم المعلومات عن العملاء إلا لمن تحددهم القوانين، وذلك انطلاقًا من الحرص على حماية الحق الشخصي للعميل الذي يخشى المزاحمة القائمة في حقل الصناعة أو التجارة واطلاع منافسيه على حقيقة أموره. هذا بالإضافة إلى مصلحة المصرف نفسه في الإحتفاظ بسرية اعماله عن غيره من المصارف الأخرى التي تنافسه محليًا وعالميًا. كما أن السرية المصرفية تساهم في جذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وتدعم الثقة بالإقتصاد القومي وبالجهاز المصرفي، وتشجع الإستثمار، وتوفر الثـقـة بالإئتمان المصرفي، مما ينعكس، وفق علامة، ايجابًا على مناخ الإستقرار الإقتصادي. وعلى الرغم من الإيجابيات المرتبطة بسرية الحسابات المصرفية، هناك آراء معارضة لنظام السرية المصرفية لأسباب كثيرة كالتستر على الأموال القذرة.
السرية المصرفية في لبنان
اعتمد لبنان السرية المصرفية بموجب القانون الصادر بتاريخ 3 أيلول 1956، مع وجود المادة 579 من قانون العقوبات التي تعاقب على افشاء الأسرار من قبل الأفراد الذين يعلمون بها بحكم وضعهم أو وظيفتهم، أو مهنتهم أو حرفتهم أو فنهم، من دون أن يكون هناك سبب شرعي أو استعمال لمنفعة خاصة أو لمنفعة أخرى. وقد أُطلِق على لبنان تسمية سويسرا الشرق، من خلال مقارنته أو مقاربته لسويسرا في كونه ملجأ للأموال الخارجية الهاربة، ومن خلال اعتماده قانونًا للسرية المصرفية، متوخيًا منها دوافع اقتصادية تهدف إلى جذب رؤوس الأموال، لتعزيز الوضع الإقتصادي في البلاد، وحفظ سيادتها واستقلالها .
حالات رفع السرية المصرفية
إن حسنات قانون السرية المصرفية لا تلغي، كما يقول علامة ان هذا القانون لم يغفل حالات عدة ترفع فيها السرية المصرفية إما جزئياً او بالكامل وفقاً للحالة وهي:
بموجب قانون 3 أيلول 1956، تلتزم المصارف الخاضعة لأحكامه السرية المطلقة، إذ لا يجوز كشف السر المصرفي سواء في مواجهة الجهات الخاصة أو السلطات العامة، وسواء كانت قضائية أو إدارية أو مالية، إلا في حالات معينة في القانون وردت على سبيل الحصر، وهي:
1- إذن العميل او ورثته خطيًا
2- صدور حكم بإشهار افلاس العميل
3- وجود نزاع قضائي بينه وبين البنك بمناسبة الروابط المصرفية (المادة 2 من قانون السرية المصرفية).
4- وجود دعاوى تتعلق بجريمة الكسب غير المشروع (المادة 7 من قانون السرية المصرفية).
5- توقف المصرف عن الدفع، إذ ترفع في هذه الحالة السرية المصرفية عن حسابات أعضاء مجلس الادارة والمفوضين بالتوقيع ومراقبي الحسابات، وذلك وفق المادة 15 معطوفة على المادة 13 من القانون الرقم 2 تاريخ 16/1/1967، المتعلق باخضاع المصارف التي تتوقف عن الدفع لأحكام خاصة.
6- الاشتباه في استخدام الأموال لغاية تبييضها، وعندها ترفع السرية المصرفية بقرار من هيئة التحقيق الخاصة لمصلحة المراجع القضائية المختصة والهيئة المصرفية العليا، وذلك عن الحسابات المفتوحة لدى المصارف أو المؤسسات المالية، ووفق الفقرة الثانية من البند 4 من المادة 6 من القانون الرقم 318/2001 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال.
لقد استفاد لبنان من اعتماد السرية المصرفية في ظل الظروف السياسية والإقتصادية التي كانت سائدة العام 1956، (تاريخ اعتماد لبنان السرية المصرفية)، والتي ساهمت في جذب رؤوس الأموال الأجنبية وبخاصة الخليجية، وبات عليه اليوم أن يطور هذه السياسة وفق المتغيرات التي طرأت في الداخل والخارج، وأدت إلى نشوء انماط جديدة في المناهج الإقتصادية الدولية ومن بينها توزيع الثروات الطبيعية وبرامج التنمية والقروض والمساعدات المالية، والتعاون الدولي لمكافحة الأعمال الإرهابية ومظاهر الإستغلال والتحكم والإبتزاز والسياسة التشريعية المرنة.
مثل هذه الإعتبارات تجعل حركة رؤوس الأموال تعود إلى لبنان بصورة كبيرة في حال توافرت تدابير ملائمة وواضحة تنسجم مع مجالها الحيوي، وفق الدكتور علامة. ولا جدوى من ملاحقة المجرمين الصغار إذا تعذر ضرب منظمات الإجرام وتجار المخدرات. وبالتالي، لا بد من تمكين المحققين من بلوغ المصارف للحصول على براهين، لمنع المجرمين من ايداع اموالهم فيها من دون أن يزعجهم أحد.
وفي هذا المجال اعتمد لبنان تدابير عدة وإجراءات (القانون 318/2001 واتفاقيات بازل 1 وبازل 2 وغيرها…) أدّت إلى التوفيق بين حاجته إلى السرية المصرفية وضرورة انخراطه في الجهود الدولية لمكافحة جريمة تبييض الأموال القذرة. كما أضيفت حالة أخرى إلى الحالات التي ترفع فيها السرية المصرفية، خصوصًا وأن هذه الحالات هي أقل خطرًا من حالة تبييض الأموال.
إن إرادة المشترع اللبناني، عند اصداره قانون السرية المصرفية، لم تكن منصرفة إلى بسط حماية قانونية على أموال محصلة بطرق غير مشروعة، يقول الدكتورعلامة، بدليل ما ورد في أسبابه الموجبة حول الغاية منه، وهي: السعي لجذب الرساميل الأجنبية إلى لبنان وبصورة خاصة رساميل الدول العربية، وإن المنافع التي سيجنيها الإقتصاد ستعوض كفاية عن الأضرار التي قد يلحقها هذا التشريع بخزينة الدولة لجهة تحصيل الضرائب.
أن ما يعتمده لبنان من أنظمة متداخلة في حفظ المدخرات وإدارة الأموال لم يعد منسجماً مع القواعد المحدثة في المنظومة المالية العالمية ومع المتطلبات الصادرة عن الهيئات الدولية المعنية بمنع مرور عمليات أو تحويلات مالية عبر القنوات المصرفية.
وتكتسب هذه التحولات، بحسب علامة، أهمية خاصة في الاستجابة أيضاً للملاحظات الواردة تباعاً من قبل وزارة الخزانة الأميركية، ولا سيما في ظل سيطرة الدولار الأميركي على الاقتصاد اللبناني والتعاملات النقدية، إذ تشكل الودائع المحررة بالدولار والبالغة حالياً نحو 102 مليار دولار في الجهاز المصرفي نحو 80 في المائة من إجمالي الودائع. كما أن تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج والمغتربين تتم بمعظمها بالدولار وتبلغ بالمتوسط نحو 7 مليارات دولار. وهي حالياً الرئة شبه الوحيدة التي تؤمن تدفقات العملات الصعبة إلى الداخل . وتكرر وزارة الخزانة الأميركية الطلب من المصارف اللبنانية اتخاذ تدابير أكثر فاعلية لحماية النظام المالي اللبناني من الفساد، من خلال القيام بالتدقيق المالي حول حسابات الشخصيات البارزة سياسياً وتحديد مصادر أموالها. كما تذكر بأن المصارف التي لا تتخذ التدابير اللازمة قد تكون عرضة للعقوبات. فيما تجهد إدارات البنوك لتبيان حزمها في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب من خلال الامتثال للمعايير العالمية، وبأنها تشرع أبوابها أمام المجتمع الدولي في محاربة كافة أنواع التمويل غير المشروع.
يرد صراحة في الأسباب الموجبة لمشروع القانون المتصل بالسرية المصرفية، تعديلات تطال بعض المواد في القانون ذاته والصادر عام 1956، وتعديلات موازية تشمل قانون أصول المحاكمات الجزائية وقانون النقد والتسليف وقانون الإجراءات الضريبية. وذلك من ضمن مندرجات الاتفاق المبدئي مع بعثة صندوق النقد على برنامج تصحيح اقتصادي ومالي تحت مسمى(التسهيل الائتماني الممدد).ويبرز من هذه التعديلات حظر فتح حسابات مرقمة وتأجير خزائن حديدية لزبائن لا يعرف أصحابها غير مديري المصرف أو وكلائهم، مع وجوب تحويل الحسابات القائمة والخزائن المؤجرة خلال مهلة ستة أشهر من نفاذ القانون، إلى حسابات عادية تنطبق عليها جميع متطلبات مكافحة غسل (تبييض) الأموال وتمويل الإرهاب، فضلاً عن تأجيل أي عمليات سحب للأموال من حسابات الودائع المرقمة والخزائن خلال الفترة الفاصلة لتحويلها إلى حسابات عادية. وبالتوازي، سيصبح متاحاً، بحسب الدكتور علامة، إلقاء حجز على الأموال والموجودات لدى المصارف، بقرار صادر عن هيئة التحقيق الخاصة (لدى البنك المركزي) وفقاً لقانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، أو بقرار صادر عن سلطة قضائية مختصة بحسب القانون، أو بقرار عن أي سلطة أخرى تناط بها هذه الصلاحية.وسط ما تقدم، قد يكون من المبرر، بحسب علامة إجراء بعض التعديلات على قانون السرية المصرفية بصيغته القائمة ولكن من المؤكد أن أي تعديلات أو تغيير في شروط رفع السرية المصرفية لا يجب أن تقر قبل ضمان وتأمين استقلالية السلطة القضائية بالكامل. كما أن تعديل قانون السرية المصرفية إن كان هدفه منع الاثراء الغير مشروع والمضاربات على العملات وتبييض الاموال الناتج عن التجارة الكبيرة الغير مشروعة والتي هي أصلاً ممنوعة بالقانون فلا يجب أن يصبح قانون اللا سرية مصرفية بحيث يمكن استعمال القانون المعدل لاستباحة الناس استنسابياً أو استهدافياً.فهل يسير لبنان الى إلغاء عقد السرية المصرفية بالكامل بعد رفعها جزئياً من خلال اقرار التعديلات وعبر إخراج لبنان من النظام المالي المتعارف عليه عالمياً اي المصرفي والسويفت والتحويلات وجعل ذلك أداة لتحريك الإقتصاد النقدي الرديف الخارج عن نطاق سيطرة الأجهزة الرسمية وعبرها الأجهزة المالية العالمية ؟لا يمكن، وفق علامة، تعديل القانون الذي يتسم بالقوة المطلقة جزئياً او تشويهه بحيث يصبح يمتلك قوة جزئية في ظل عدم قدرة مؤسسات الدولة الرسمية على فرض تطبيق القانون بالقوة المطلقة وبالعدالة الكاملة على كافة اراضيها وعلى كل مواطنيها.