بعد اجتماعه الدوري الأخير برئاسة النائب جبران باسيل، قفز تكتل “لبنان القوي” فوق ملفّي ترسيم الحدود البحرية وانتخابات الرئاسة “الضاغطَين”، ليشجب ما وصفها بـ”تصرفات” رئيس المجلس الأعلى للقضاء سهيل عبود “المعطّلة لسير العدالة”، ويطالب بإحالته للتفتيش القضائي، بناء على مواد قانونية تعاقب على “صرف النفوذ واستغلال السلطة”، في فصل جديد للمعركة المستمرّة بين “العهد” والقاضي عبود.
صحيح أنّ هجوم باسيل على القاضي عبود ليس الأول من نوعه، إلا أنّه جاء في توقيت “معبّر”، بعيد “فشل” محاولة جديدة لتعيين ما سُمّي بـ”القاضي الرديف” في ملف التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت، بناءً على اقتراح وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري، الذي استخدم صلاحيّات لم يكن كثيرون يعرفونها، فدعا مجلس القضاء الأعلى إلى الاجتماع، وحدّد جدول أعماله، الأمر الذي رفضه عبود، فقاطع الجلسة، التي طار نصابها.
وفيما كان لافتًا على مدى الأيام الأخيرة، ما يمكن وصفه بـ”الكباش” بين وزير العدل والقاضي عبود، والذي ارتقى إلى مستوى “حرب البيانات”، فإنّ المواجهة التي اعتبرها قانونيون ومتابعون “غير مسبوقة”، أثارت الكثير من علامات الاستفهام، لا حول “مبدأ” استقلالية القضاء فحسب، ولكن أيضًا حول حدود “الفصل” بين السلطتين السياسية والقضائية، والمسار الذي يمكن أن يمضي به “العهد” في سبيل “فرض” تعيين القاضي الرديف.
وقت ضيّق.. و”مظلوميّة”
يرفض المحسوبون على “التيار الوطني الحر” المنحى الذي يقولون إنّ القاضي عبود “جرّ” الأمور إليه، بحديثه عن “تدخل سياسي سافر”، وفق وصفه، في العمل القضائي، رغم اعترافه في متن بيانه أساسًا بـ”حقّ” وزير العدل القانوني بدعوة مجلس القضاء الأعلى إلى الاجتماع، ولو أنّه لم يُطبَّق ولم يُعمَل به سابقًا، علمًا أنّ الوزير لم يفرض على المجلس جدول أعمال من الخيال، بل طلب منه البتّ بأمور سبق أن ناقشها في اجتماعاته الدورية.
وإذا كان رئيس مجلس القضاء الأعلى ألمح في بيانه إلى “مبررات سياسية لا قضائية” خلف دعوة وزير العدل غير المسبوقة إلى اجتماع المجلس، فإنّ المحسوبين على “التيار” يتحدّثون عن “تسييس” يقوم به القاضي عبود نفسه، الذي يصرّ على “تعطيل” مسار تعيين القاضي الرديف لاعتبارات سياسية محض، من دون أن يراعي الاعتبارات القانونية التي تقف خلف اقتراح وزير العدل، بالنظر إلى الوضع “الشاذ” الذي وصل إليه ملف انفجار المرفأ.
ويشير المحسوبون على “التيار” في هذا السياق، إلى ما يعتبرونها “مظلومية” لحقت بالكثير من الموقوفين في الملف، الذين لا تزال ملفاتهم “عالقة”، بل “أسيرة” التجاذب السياسي القضائي على التشكيلات تارة، وعلى المحقق العدلي القاضي طارق البيطار تارة أخرى، وهو ما استدعى البحث عن خيارات قانونية للبتّ بأمر الموقوفين، الذين أمضى بعضهم مدّة من السجن لا تتناسب مع حجم “الاتهام” الموجّه إليهم، بسبب “تكبيل” المحقق العدلي.
“استقلالية” القضاء أولاً!
لكن، في مقابل هذا الكلام، يرى البعض أنّ “المعركة” التي يخوضها “العونيّون” بقيادة باسيل، في سبيل “فرض” إطلاق الموقوفين، وخصوصًا المحسوبين عليهم، لا تبشّر بالخير، علمًا أنّ رئيس “التيار الوطني الحر” سبق أن أعلن صراحةً أنه ماضٍ بهذه المعركة حتى النهاية، مهما كان الثمن، وهو ما من شأنه قرع جرس الإنذار حول “التدخل” في السلطة القضائية، علمًا أنّ ثمّة “مظلومية” تقع على موقوفين في قضايا كثيرة، وليست محصورة بهذا الملف.
ويقول المعنيّون في هذا الإطار إنّ “الأجدر” بباسيل، بدل أن يسعى لـ”فرض” رؤيته على القضاء، رغم كلّ الجدل الذي أثارته فكرة “القاضي الرديف”، وقد يثيره تطبيقها على أرض الواقع، أن يعمل على تصحيح “الخلل” الحاصل، خصوصًا أنّ المشكلة الفعلية ليست مرتبطة بعدم حسم ملف الموقوفين، بل بتجميد التحقيقات بجريمة بهذا الحجم، عبر الإصرار على “كفّ يد” المحقق العدلي ومنعه من مواصلة مهامه، وهو ما لا ينبغي القبول به.
وبعيدًا عن “الجدل” المثار في هذا الإطار، بين توقيع وزير المال المطلوب على مرسوم التشكيلات، أو التصحيح المطلوب من جانب المجلس الأعلى للقضاء، فإنّ ما يؤكد عليه المتابعون يبقى أنّ “استقلالية القضاء خط أحمر”، وهي التي يجب أن تكون عنوان كل التحركات، وهم يشدّدون على أن المطلوب من السياسيين العمل على إقرار اقتراح قانون استقلالية القضاء، بدل البحث عن مواد قانونية تبرّر ضرب هذه الاستقلالية في جانب من الجوانب.
ثمّة من يخشى من المدى الذي يمكن أن تسلكه المواجهة بين “العهد” والقضاء، خصوصًا أنّ “العهد” الذي بات في أيامه الأخيرة، سبق أن رفع لواء قضية الموقوفين في انفجار المرفأ، وهو وفق ما يؤكد المحسوبون عليه، لن يقبل بإبقائها أسيرة التجاذبات، فهل من “تسوية” يمكن أن توقف “الانحراف الحاصل” على هذا الصعيد، أم أن “المواجهة” مستمرّة، بمعزل عن “التداعيات” التي قد تطيح في طريقها بما تبقى من الثقة بالقضاء؟!