فورَ شيوع نبأ نجاح المفاوضات المُرتبطة باتفاق ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان والعدو الإسرائيليّ، الثلاثاء الماضي، بدأ الكثير من “المُحلّلين الفيسبوكيين” اعتبار الاتفاق بمثابةِ خطوة للتطبيع بين لبنان والكيان الإسرائيلي. فمن جهة، عمد البعض إلى وصف الإتفاقية بـ”أوسلو لبنان”، فيما وصف البعض الآخر ما حصل بـ”معاهدة سلام”.. أما الأمر الأكثر إثارة للدهشة والاستهجان فكانَ في نشرِ بعض “الفسابِكة” بنوداً وهمية نسبوها إلى اتفاق الترسيم الذي بات نصّه موجوداً بشكل علني وبمتناول الجميع، أي أنّه لم يعُد “حكراً” على أحد. وهنا، يطرح التساؤل التالي: هل حقاً تضمّن الاتفاق “تطبيعاً”؟ هل صدَق “منجّمو الفيسبوك” بما قالوه بشأن الترسيم؟
يوم أمس، كان رئيس الجمهورية ميشال عون واضحاً في كلمتهِ التي توجّه فيها إلى اللبنانيين بشأن “اتفاقية الترسيم”، إذ قال بوضوح: “لبنان لم يقدم أي تنازلات جوهرية، كما أنه لم يدخل في نوعٍ من أنواع التطبيع المرفوض”.في الواقع، فإنّ ما قاله عون يعكسُ تماماً روحيّة الاتفاقية التي أكدت وبقوّة أن “التطبيع” الذي روّج له البعض لم يرِد أصلاً كما أنه غير قائمٍ بتاتاً، والدلائل على ذلك كثيرة. فبشكل واضح، من يُراجع نص الإتفاق سيتبين له وبالدليل القاطع إنه لم ينص على تنسيق مباشر مع العدو الإسرائيلي ولا تطبيع. كذلك، لم يتضمن الاتفاق أي شرطٍ لوجود لجنة “ترتيبات أمنية” لبنانية وإسرائيلية بعكس ما نصت عليه “اتفاقية جلاء القوات الإسرائيلية من لبنان” عام 1983 والتي حاول البعض ربط مضمونها باتفاقية ترسيم الحدود الأخيرة.
كذلك، فإن الاتفاق الأخير لم يطرح على لبنان أي شروطٍ بشأن الملاحة البحرية في مياهه الإقليمية، كما لم يفرض أي شرطٍ على الجيش بشأن أي حمايةٍ قد يوفرها لمنصات الغاز في البحر. أمّا الأمر الأهم فهو ما أشار إليه عون وهو أنّ أما “الاتفاق لم يعترف بخطّ الطفافات الإسرائيلي”. مع هذا، فإن اتفاق الترسيم لم يشهد على مباحثات لبنانية – إسرائيلية مباشرة، أي أن المفاوضات لم تكن مباشرة مثلما حصل في العام 1983 حينما كانت أعضاء الوفود المشاركة في المفاوضات تضمّ ممثلين عن لبنان وممثلين عن الجانب الإسرائيلي وآخرين عن الجانب الأميركي، وهم بالأسماء: (الوفد اللبناني): السفير أنطوان فتال – الرئيس أنطوان بارود – السفير إبراهيم خرما – العميد الركن عباس حمدان – العميد الركن سعيد القعقور – العقيد الركن منير رحيم – العقيد الطيار فوزي أبو فرحات – الأستاذ نبيل معماري – الأستاذ داوود الصايغ – السيدة منى جريج. (الوفد الأميركي): السفير موريس درايبر – السيد كريستوفر روس – السيد آلن كريزكور الذي استبدل بالسيد مايكل كوزاك – السيد بول هير – العميد أندرو كولي – العقيد باتريك كولينز الذي استبدل بالمقدم دافيد أنطوني. (الوفد الإسرائيلي): دافيد كمحي – إيلياكيم روبنشتين – شمويل ديفون – أبراشا تامير – مناحيم إينان – حمام آلون.
ووسط كل ذلك، فإنّ الاتفاقية لم تفرض على لبنان أي تغيير في الانتشار العسكري ضمن الجنوب أو بنوع الأسلحة الموجودة هناك، كما أنه لم تؤدِّ إلى فرض شروطٍ ترتبط بالحدود البريّة التي ستُناقش لاحقاً بإشراف أميركي. ولكي لا يتم إغفال أمرٍ أساسي، فإن ترسيم الحدود الأخير منحَ لبنان حقل “قانا” بشكل كاملٍ عبر التأكيد صراحة على أنه “لبناني”، الأمر الذي ينسفُ تماماً ما يُروّج عن أن إسرائيل شريكة في ملكية الحقل، علماً أن لبنان لن يتكفل بدفع العائدات التي ستعود للعدو الإسرائيلي من الجزء الخاص بالحقل الموجود ضمن المياه الإقليمية الفلسطينية المُحتلة.إذاً، وبكل وضوح، فإنّ لبنان في الأصل لم يعترف بأي شيء أقرّه العدو، في حين أنه رسّم حدوده الاقتصادية لضمان حقوقه بالغاز والنفط بموجب رعاية أمميّة وأميركية وليس مباشرة مع “الكيان الإسرائيلي” الذي لا يعترف لبنان به أصلاً. كذلك، فإن لبنان أسقط المسعى الإسرائيلي بسرقة 860 كلم مربعاً من مياهه الإقليمية، وبالتالي انتزع هذه المساحة لصالحه عبر تثبيت الخط 23.. فعن أي تطبيع يتحدث البعض؟