الغموض الذي سيطر على مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل وعدم وضوح معالمها جعل من هذا الملف قنبلة جديدة ترمى في حضن اللبنانيين، فالاتفاق تم بقدرة قادر، إذ نجح المفاوض الأميركي آموس هوكشتاين الذي قاد العملية في تطويعها لخدمة بلاده.
وكان واضحاً أن هناك ضغوطاً مورست وظهرت في الارباكات التي رافقت الاتصالات نتيجة الابهام في طبيعة النقاشات وحصر المعلومات برئيسي الجمهورية ومجلس النواب ميشال عون ونبيه بري و”حزب الله” ونائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب الذي مثل فعلياً “التيار الوطني الحر”، ولعب دور المراسل مع الوسيط الأميركي.
واكبت عملية المفاوضات استعراضات قام بها “حزب الله” من خلال المسيرات التي أطلقها فوق “كاريش”، تحت شعار اذا لم توافق اسرائيل على ترسيم الحدود مع لبنان وعلى خط قانا المتعرج، فسيتعرض حقل “كاريش” للخطر، بينما كان الأمين العام للحزب حسن نصر الله أكد سابقاً أنه يقبل بما تقول به الدولة، ولكن جاءت رسالة المسيرات للدخول على خط التفاوض بهيصة اعلامية، ولم يتضح سير عملية التفاوض لبنانياً بما يضمن حقوق لبنان، مما طرح أسئلة كثيرة في الأوساط السياسية.
كان لبنان قد فاوض منذ عشر سنوات عندما وقع الاتحاد الأوروبي اتفاق الغاز مع قبرص، على الخط 23، مما يعني أنه لم يكن يعرف أن خط حدوده الطبيعي هو الخط 29 وهو أمر معيب بحقه. وعندما فشل الاتفاق مع قبرص لم يطالب لبنان باسترجاع نقطة الخط 29، وخلال هذه الفترة كان الرئيس بري يعتبر أنه المفاوض وعن الجانب الأميركي فريدريك هوف الذي زار لبنان في العام 2012 ورسم خطاً يتم من خلاله تقاسم المنطقة المتنازع عليها بين لبنان واسرائيل عند الحدود البحرية الجنوبية. حدود لبنان البحرية الشرعية تمتد على حوالي 860 كلم2 والاقتراح أعطى لبنان مساحة 500 كلم2 واسرائيل 360 كلم2، ما يعني أن لبنان حصل على 60% من ثروات النفط مقابل 40% لاسرائيل، أي وافق على أخذ الـ500 كلم2، لكنه رفض التنازل عن الـ360 كلم2 فجمّد الاقتراح حينها.
وبعد انتخاب جو بايدن تحركت الولايات المتحدة لاحياء مفاوضات الترسيم من جديد، لكن العملية تحولت الى لغز، خصوصاً بعدما كشف المفاوض العسكري اللبناني عن خط الحدود الذي يجب أن يكون 29 بدلاً من 23، وكان هو الجدير بمتابعة هذه العملية، الا أن الطبقة السياسية اختارت أن تتم المفاوضات من خلال من يؤمن لها مصالحها في الثروة المنتظرة، حتى وإن كان الثمن التخلي عن الحدود الطبيعية للبنان، ففاوضت على الخط 23 بدلاً من الأخذ في الاعتبار ما أوضحه الجيش اللبناني عن حدود لبنان بالخرائط حتى الخط 29، مما يعني التخلي عن مساحة اقتصادية وثروة كبيرة. وسمح لـ”كاريش” ببدء استخراج الغاز من منطقة كان يجب أن تعلن أمام الأمم المتحدة منطقة متنازعاً عليها، لكن لبنان لم يرفع شكوى رسمية اليها بوجود اشكالية حول حدوده على الرغم من أن حكومة حسان دياب رفعت رسالة حول ذلك لتعديل حدوده، الا أن الرئيس عون أبقاها في درج القصر ليفاوض عليها لاحقاً، علَّ المفاوض الأميركي يرضى برفع العقوبات عن صهره مقابل التنازل عن الحدود الحقيقية.
أتت باخرة التنقيب الى حقل “كاريش”، وهيّأت اسرائيل نفسها مسبقاً للبدء بعمليات التنقيب والحفر لاستخراج الغاز ووقعت عقوداً مع شركات من أجل ذلك، بينما لبنان لم يوقع أي عقود وهذه مشكلة، لأنه عندما ذهب ليفاوض على الخط 23 ومتعرج قانا، فاوض على حقل وهمي فمن غير المعروف ما اذا كان في هذه المنطقة غاز للاستخراج أم لا.
عندما يُسأل مؤيدو جمهور المقاومة عن ذلك، يكون الجواب بسؤال: كيف يمكن للبنان التمسك بالخط 29؟ فهذا يعني الدخول في معركة، وأنتم ترفضون مقاومة “حزب الله” وتريدون تنفيذ القرارات الدولية. ومن جهة ثانية يشيرون الى أن هذا التفاوض يسمح للبنان باسترجاع ثرواته والحصول على حد أدنى من الثروات الضائعة، وهو كلام غير صحيح.
وعندما يقال لهم كيف سيكون موقفكم من شركة “توتال” التي كلفت بالتعويض في حال وجود حقول قريبة لـ “كاريش” وستقاسم اسرائيل الأرباح؟ يسكتون ثم يسألون: من هي الشركات التي ستأتي، وكيف ستوقع العقود، ومن سيوقعها، ومن أين سترد الأموال التي يجب أن يحصل عليها لبنان؟ الأسئلة كثيرة ولا جواب.
من حيث المبدأ فان اتفاق ترسيم الحدود سيضع لبنان أمام مشكلة تشبه مشكلة اتفاقية القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي وقعها قائد الجيش في عهد الرئيس شارل حلو من دون مناقشتها في البرلمان، وأحدثت قطيعة في الدولة لأنها وقعت على عجل وبطريقة غير قانونية.
لقد حقق الاتفاق لاسرائيل الكثير من الأمور من كيس لبنان، الذي لم يحقق أي شيء بل ارتضى بهذا الاتفاق نتيجة أمرين، الأول يتعلق بأن الطبقة الفاسدة الموجودة في السلطة، فاوضت على ثروات لبنان وخضعت لارادة المفاوض لحماية نفسها من العقوبات التي لوحت بها الولايات المتحدة ضدها وضد أعوانها، ومن ناحية أخرى أرادت استثمار هذا التفاوض في رئاسة الجمهورية الجديدة.
لقد أُسقط الاتفاق على الوفدين اللبناني والاسرائيلي على الرغم من أنه نحا للحفاظ على مصالح اسرائيل، وجاءت استقالة رئيس الوفد الاسرائيلي المفاوض لأنه قال اننا لم نناقش هذه الاتفاقية داخل الوفد وفرضت علينا. اما التعديلات التي حددها هوكشتاين وأرسلها الى الطرفين كي لا يتملصا منها وتم التعامل بهذا الأسلوب، فتعود الى أن هذا الاتفاق ليس لبنانياً – اسرائيلياً بل أميركي – إيراني، فايران سهلت عملية الترسيم على حساب لبنان وربحت استخراج مليون و800 طن شهرياً وبيعها للخارج بينما كان مسموحاً لها ببيع 400 طن مما يؤشر الى انفراج اقتصادي لها.
من الواضح أن حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا خلطت الأوراق وصارت الحاجة أم الاختراع، فالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي واسرائيل بحاجة الى استخراج الغاز، وعليه تحركت واشنطن في المنطقة لاحياء مفاوضات الترسيم، فتخلى لبنان عن الخط 29 وسمح لاسرائيل باستثمار حقل “كاريش” على الفور لتلبية الحاجات طالما هناك جهوزية اسرائيلية. رضخ لبنان ووافق “حزب الله” بقرار ايراني، لكن لا أحد يستطيع أن يتجاوز حقيقة وقوع الخيانة، ومهرجان الفرح الكاذب لن يدوم طويلاً لاسيما من السلطة الساعية الى سرقة عائدات الغاز إن وجد، فلا أحد يضمن وجود سمك في البحر، ولا نذهب بعيداً فما تكلفه لبنان في السدود مثال على أن البعض يهوى تكرار التجارب الفاشلة مثل بواخر الكهرباء أيضاً، وربما لن يكون الاستثمار في البحر أقل خسارة على لبنان نتيجة “عنطزة” العهد وأعوانه.