عندما بدأت القيمة الشرائية لليرة اللبنانية تتهاوى أمام سعر صرف الدولار الأميركي، وكان يومها قد وصل إلى سقف الثلاثة ألف ليرة، أذكر أنني عندما كتبت بأن سعره سيصل إلى خمسة الآف في أقل من شهر، وذلك بناء على متابعتي اليومية للمسار السياسي المتهالك، وليس استنادًا إلى معلومات مالية أو حسابية، اتصل بي زميل وصديق “يؤنبني” بلطافته المعهودة، ويقول لي بأنني ابالغ بعض الشيء، وأن ما أكتبه قد يدفع الناس إلى الهلع واليأس. وأضاف أن ما أصفه بـ “المتابعات” للمجريات السياسية ليست سوى شائعات يُقصد منها تخويف الناس وبثّ ما يُسمّى بـ “السموم”، التي لا تخدم سوى الذين يتربصون بالبلاد شرًّا.
أخذت يومها كلام صديقي، وهو لا يزال أعزّ الأصدقاء، على محمل الجدّ. وقلت في نفسي أن حدسي الصحافي ربما قد خانني هذه المرّة، مع العلم أنه لم يخذلني ولا لمرّة واحدة منذ أن اخترت أن أكون “راهبًا” في “مهنة المتاعب”. لمتّ نفسي على حماستي المفرطة. وقررت ألا أكتب عن الدولار أو عن أي أمر آخر قد يُشتمّ منه بأن فيه بعضًا من تثبيط العزائم. يومها كانت التظاهرات تملأ الشوارع والساحات، وكان “الثوار” في أوج حماستهم واندفاعتهم. واعتقدنا كما الكثيرين أن هذه “الثورة” ستوصلنا إلى برّ الأمان، وأن الشعارات التي كانت تُطلق، ومن بينها شعار “كلن يعني كلن”، أي كل الفاسدين، كانت في أغلبيتها شعارات محقّة. وقد لمسنا في حينه أن لدى بعض “الثوار” وعيًا سياسيًا غير موجود لدى كثيرين من أهل السياسة، وأن لديهم حسًّا وطنيًا يفوق بكثير ما لم نلمسه لدى طبقة سياسية قد أوصلت البلاد إلى ما وصلت إليه نتيجة فسادها أولًا، وبفعل افتقادها لرؤية مالية واقتصادية واضحة وواعدة.
وعلى رغم الآمال العريضة، التي عُلقّت على هذه “الثورة”، التي تبيّن لاحقًا أن لدى بعض القائمين بها أهدافًا غير الأهداف، التي آمن بها الذين أيدّوها ودعموا مسيرتها وخطواتها، استمرّ “الدولار الأخضر” في مسيرته التصاعدية، آكلًا أخضر الناس ويباسهم، وحاصدًا بمنجله تعب السنين وعرقها ودموعها. وكنت في كل مرّة يقفز فيها هذا الدولار، الذي أصبح نجمًا لا يُنافَس على الساحة اللبنانية، قفزات متتالية ومنظّمة، وقد تخطّى عتبة المئة ألف ليرة ليصل إلى مستويات أعلى، أتصلت بصديقي، ليس من باب “الزكزكة”، ولكن من قبيل تذكيره بأن حدسي الصحافي لم يخطئ، وجلّ من لا يخطئ.
فبعدما تخطّى سعر صرف هذا الذي بات متحكّمًا بيوميات اللبنانيين وحياتهم، عتبة المئة ألف ليرة، فإن راتب الموظف والعسكري المزاد ثلاثة أضعاف لم يعد يساوي شيئًا. فكل السلع والخدمات باتت تُسّعر بالعملة الخضراء، حتى أن تسعيرة “السرفيس” قد أصبحت بالدولار. كان يُقال إذا كنت تملك قرشًا فأنت تساوي قرشًا. أمّا اليوم فإذا كنت لا تملك دولارًا فانت كانسان يعيش في لبنان لم تعد تساوي شيئًا.
وما زاد من هموم اللبنانيين همًّا ما تناهى إليهم من أخبار من بلاد “العم سام” عن أزمة مصارف بات تلوح في الأفق، وكأن ما فيهم من هموم غير كافٍ. ومع هذا كله، وغيره الكثير، لا نزال نرى نواب الأمة، إلى أي جهة انتموا، يراهنون على بعض المتغيّرات الخارجية، التي يمكن أن تنتج عن الاتفاق السعودي – الإيراني، ولا يزالون يربطون انتخاب رئيس للجمهورية بهذه المتغيّرات، التي إن حصلت لن تصب في خانة المصلحة اللبنانية، لأن العالم في وادٍ ولبنان في وادٍ آخر.