سمعنا كثيرًا عن سياسة “لحس المبرد”. هي سياسة من يظّن أنه بلحس دمه يتغذّى، ولكنه في الواقع لا يقوم سوى بتصفية ما تبقّى في جسمه من دم. وإذا ما استمرّ في لحس المبرد فسيأتي وقت لا يعود في جسمه ما يكفي من الدمّ، وبالتالي لا تعود لديه قدرة على الحركة، وتخور قواه شيئًا فشيئًا إلى أن تتلاشى.
هذه السياسة اتُبعت في الماضي عندما ثُبّت سعر صرف الدولار الأميركي على 1500 ليرة طوال سنوات، وعندما أقرّت سلسلة الرتب والرواتب. ومنذ ذاك الوقت بدأنا نتلّذذ في مصّ دمائنا. والغريب في الأمر أن بعض الذين لا يزالون يطمرون رؤوسهم في الرمال وضعوا إقرار السلسلة في خانة الإنجازات. ومن دون أن يأخذ بعض المتهورين العِبَر من الماضي القريب نسمعهم بين الحين والآخر يطالبون برفع الحدّ الأدنى للأجور إلى ما يقارب الأربعين مليون ليرة، أي ما يعادل الأربعمئة دولار أميركي، في حال بقي سعر صرف الدولار ثابتًا على رقم المئة ألف ليرة. من حيث المبدأ يبدو للوهلة الأولى أن ما يطالب به هؤلاء محقّ، خصوصًا أن الغلاء الفاحش آخذ في التصاعد من دون حسيب أو رقيب. ولكن من حيث الواقع، فإن أي زيادة غير مدروسة وغير مستندة إلى أرقام مالية دقيقة ومفصّلة ستؤدّي إلى المزيد من التضخم، وإلى المزيد من الفوضى الناجمة عن سياسة “لحس المبرد”. أمام هذه المعضلة المتشابكة الخيوط يقف المسؤولون، الذين لا يزالون “يباطحون” للحؤول دون الانهيار الكبير، حيارى. ليس لأنهم متردّدون، كما يحلو لبعض هواة “الحروب العبثية” توصيفهم، ولكن حرصًا منهم على أمرين متلازمين: الأول قدرة المواطن على الاستمرار في عيش حياة كريمة، ولو بحدّها الأدنى، مع استمرار فقدان الليرة من قيمتها الشرائية أمام تفّلت سعر صرف الدولار، الذي يبدو أن لا سقف محدّدًا له في غياب سياسة مالية واضحة المعالم والأهداف والوسائل. أمّا ثاني الأمرين فهو أن هؤلاء المسؤولين هم الوحيدون، الذين لا يزالون يُعتَبَرون “أم الصبي”، وهم لذلك يزينون الأمور بميزان الجوهرجي. فأي خطوة قد تكون ناتجة عن ردّة فعل على بعض الضغوطات السياسية الشعبوية وبعض المطالب الشعبية ستكون بمثابة الضربة القاضية على الآمال التي لا تزال معقودة لخروج لبنان من أزماته، ولو تدريجيًا، وعودته الطبيعية إلى مرحلة التعافي. فانطلاقًا من حرص الحكومة على المواءمة بين حقّ المواطن، موظفًا مدنيًا كان أم عسكريًا، وبين القدرات المالية المتوافرة في خزينة الدولة، فإن أي قرار قد يُتخذ، وهو سيُتخذ حتمًا في نهاية الأمر، إن لم يُشبع درسًا وتمحيصًا، ستكون له نتائج وخيمة، وستكون له انعكاسات خطيرة على المواطن أولًا، وعلى مالية الدولة ثانيًا. فسياسة “لحس المبرد” هي من أسهل السياسات، ولكن مفاعيلها هي من الأسواء على الاطلاق. فتحمّل المسؤولية يتطلب جرأة في مقاربة الأمور بصدق وشفافية بعيدًا عن الشعبوية وعن المزايدات الناتجة عن خفّة في التعاطي مع أمور الوطن المصيرية. الخيارات الممكنة والمتاحة مطروحة على بساط البحث والتدقيق والمراجعة المتأنية. فالرواتب والأجور تحتاج إلى إعادة هيكلة شاملة لمختلف القطاعات وتحديد مستويات القدرات المطلوبة للعمل، ومن ثم وضع سلم للأجور يكون متناسبًا مع الكفاءات التي تتمتع بها اليد العاملة اللبنانية لإعطاء الموظف حقه، وفي المقابل عدم تحميل رب العمل أعباء إضافية تؤدي إلى إقفال مؤسسته. فتأمين التوازن المطلوب وعدم الوقوع مجددًا في دوامة التضخم وزيادة العجز لتغطية كلفة الرواتب، هو من الأمور التي يتمّ بحثها على طاولة التشريح قبل أن تُعرض في صيغتها النهائية على مجلس الوزراء. فإنصاف الموظف أولوية من بين أولويات كثيرة، ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى ضرب المؤسسات والقطاعات الإنتاجية، وإضعاف الدولة وارهاقها، وهي التي تكاد تملك قدرة الوقوف على أرجلها. المطلوب الكثير من الحكمة والتروي، لكي لا يأتي أي قرار إلا لمصلحة المواطن، وإن لم تظهر مفاعيله مباشرة.