بالمفصليّة والتاريخيّة، وُصِفت القمّة العربية التي عقدت في مدينة جدّة السعودية، والتي أرادت الرياض، ومعها مجمل الدول العربية، أن تكرّس أجواء الوفاق والتفاهم السائدة في المنطقة، وإرساء جو من التصالح، تحت عنوان “تصفير المشاكل”، الذي بدأ مع التفاهم السعودي الإيراني، واستُكمِل مع إعادة سوريا لجامعة الدول العربية بعد عزلة طويلة، وهو ما تُرجِم بمشاركة الرئيس بشار الأسد في قمّة جدّة.
Advertisement
وإذا كان الأسد، إضافة إلى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، اعتُبِرا “نجمي القمّة”، جنبًا إلى جنب وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي ترأس أعمالها، فإنّ لبنان الذي مثّله رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، على رأس وفد وزاري متنوّع، في ظلّ الفراغ الرئاسي، حضر في “صلب” جدول الأعمال، سواء في المحادثات التي عقدت على الهامش، أو في البيان الختامي الذي خصّه ببند “تضامني” معبّر.
وفي وقت حاول كثيرون التقليل من وقع البند المذكور، بوصفه جاء “مقتضبًا”، ودون سقف التوقعات “المضخّمة” التي أعطيت للقمّة، لدرجة اعتقد كثيرون أنّ القادة العرب سينتخبون الرئيس نيابة عن نواب لبنان، فإنّ المحكّ الرئيسي يبقى ما بعد القمّة، فهل يستفيد لبنان من “الإيجابية” التي كرّستها على أكثر من مستوى؟ وكيف السبيل إلى ذلك، في ظلّ حالة المراوحة الطاغية، رغم كلّ محاولات “الخرق”؟!
“رسالة” العرب للبنان
صحيح أنّ هناك من حاول “التشويش” على حضور لبنان في القمّة العربية، من خلال “تهميش” الملف اللبناني، سواء لكونه لم يَرِد في كلمات عدد من المتحدّثين من القادة العرب، أو لأنّ البند اللبناني الذي جاء متأخّرًا في الصدارة بعد القضية الفلسطينية والأزمة السودانية والحرب اليمنية، أتي “مقتضبًا”، واقتصر على “تضامن عربي” مع لبنان، معطوفًا على دعوة متجدّدة لانتخاب رئيس للجمهورية “يرضي طموحات” اللبنانيين.
لكنّ الصحيح أنّ هذه القراءة لا تعبّر عن الحقيقة بحسب العارفين، الذين يشيرون إلى أنّ لبنان حضر في صلب المحادثات، وقد تمّ تخصيصه ببند واضح وصريح، يؤكد أنّه ليس متروكًا، وأنه لا يزال يشكّل “أولوية” للعرب، رغم كلّ ما يحكى ويروّج خلافًا لذلك، علمًا أنّ “مرتبته” تبدو طبيعية، مقارنة بالملفات “الساخنة” التي سبقته، والمرتبطة بساحات تشهد مواجهات ومعارك على الأرض، كما في السودان واليمن، وفلسطين بطبيعة الحال.
ولعلّ البند اللبناني، بكلماته المقتضبة لكن الدالة، يعبّر بوضوح عن “الرسالة” التي أراد القادة العرب إيصالها إلى اللبنانيين، والتي “تتناغم” بالكامل مع “رسالة” المجتمع الدولي للبنان، وقوامها أنّ الكرة كانت ولا تزال في ملعب القادة اللبنانيين أنفسهم، الذين تقع على عاتقهم مسؤولية انتخاب رئيس للجمهورية، بما يفتح باب الحلّ، علمًا أنّ الحديث عن الإصلاحات في البيان الختامي لا يمكن اعتباره “تفصيلاً” هنا بأيّ شكل من الأشكال.
ما بعد القمّة العربية
في البند المرتبط بلبنان في البيان الختاميّ، أو ما اصطلح على تسميته بـ”إعلان جدة”، ثمّة أكثر من “رسالة” يتوقف عندها المتابعون، لعلّ أهمها دعوة اللبنانيين إلى “التحاور”، معطوفة على البند التالي، والذي أشار إلى “رفض التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية”، وهو ما ينطوي على تأكيد على وجوب “لبننة” الاستحقاق الرئاسي، بعيدًا عن أيّ ضغوط أو تدخلات من هذا الطرف أو ذاك، وهذا المحور أو ذاك.
لا يعني ذلك أنّ الجهود والمبادرات والوساطات ستتوقف، بل إنّ الكثير سيُبنى في المرحلة المقبلة على ما تحقّق في قمّة جدة، علمًا أنّ الاتصالات مستمرّة لعقد لقاء خماسي جديد للدول المعنيّة بلبنان، والذي قد يلتئم في وقت قريب وفق بعض المعلومات، في ظلّ حديث عن استكمال السفير السعودي وليد بخاري لقاءاته في الأيام المقبلة، تزامنًا أيضًا مع إعادة “تفعيل” المبادرات الداخلية الضرورية لتحريك الاستحقاق بشكل أو بآخر.
وبانتظار ظهور مفاعيل القمّة، ثمّة من يتوقف عند “التضارب” في قراءتها مرّة أخرى، ليؤكد استمرار “المراوحة” لبنانيًا، فمؤيدو رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية وجدوا في قمة جدة ومجرياتها ما يدفع إلى “التشبث” به وصولاً حتى انتخابه، فيما خصومه رأوا فيه تغليبًا لمنطق “التوافق” الذي يجب أن يرسو على مرشح ثالث، فيما المطلوب من الفريقين النزول عن الشجرة، تمهيدًا للتفاهم الذي حثّ العرب عليه بشكل واضح.
استحقاق آخر مرّ في طريق الاستحقاقات الكثيرة التي رُبِط بها استحقاق رئاسة الجمهورية، مع انتهاء القمّة العربية، التي قيل سابقًا إنّها ستكون بداية الحلّ، وإنّ ما بعدها لن يكون كما قبلها. لكن، سواء صحّ ذلك أم لم يصحّ، فالأكيد أنّ المطلوب من اللبنانيين أن يتلقّفوا الرسائل العربية والدولية “المتناغمة”، وإلا فإنّ كل الجهود التي تُبذَل، أيًا كان حجمها، ستضيع سدى، ولن تكون مثمرة على أيّ مستوى!