ما كان يطالب به بعض الذين لا يزالون يؤمنون بأن المسار الديمقراطي لأي جلسة انتخابية هو الممر الطبيعي لوصول أي مرشح رئاسي إلى بعبدا سيصبح واقعًا لا مفرّ منه في النهاية المطاف. وهذا الواقع سيحتّم على رئيس مجلس النواب نبيه بري الدعوة إلى جلسة انتخابية جديدة ستحمل الرقم 12، وسيفرض على جميع الكتل النيابية النزول إلى “ساحة النجمة” ليقوم نواب الأمّة بواجبهم الوطني والدستوري قبل أي أمر آخر، خصوصًا بعد أن يصبح في الميدان الرئاسي مرشحان لا ثالث لهما، الأول يدعمه “الثنائي الشيعي” ومن يؤيده، وهو رئيس تيار “المردة” الوزير السابق سليمان فرنجية، والثاني هو الوزير السابق جهاد ازعور المدعوم من “الثلاثي المسيحي” ومن يؤيده من النواب المستقلين والتغييريين.
فالدعوة إلى جلسة انتخابية جديدة قد تكون ظروفها مؤاتية، وقد يلبيها جميع النواب من كلا الطرفين، ولكن هذا الأمر لا يعني أنه سيصبح للبنان رئيس بعد هذه الجلسة، التي يعتبرها البعض مفصلية، إذ يمتلك كل منهما “فيتو” تعطيل النصاب بعد الجلسة الأولى، التي سيدعو إليها الرئيس بري، خصوصًا إذا لمس أي فريق من فريقي المنافسة أن الدفة الرئاسية تميل لمصلحة “المرشح الخصم”، من دون الأخذ في الاعتبار ما يمكن أن تفرضه الولايات المتحدة الأميركية من عقوبات على الفريق المعطّل.
وبهذه الحال تدخل البلاد من جديد في دوامة المراوحة السلبية من دون تحقيق أي خرق في الجدار الرئاسي، الذي تتراكم على جوانبه كل أنواع المواقف، التي تحول دون إتمام هذا الاستحقاق. ومع هذه المراوحة القاتلة يستمرّ النزف الاقتصادي، وتستمرّ معاناة الناس، الذين لا حول لهم ولا قوة سوى انتظار الفرج، الذي لا بدّ آت مهما طالت المعاناة، ومهما طال الانتظار، باعتبار أن الحياة الطبيعية لن تعود إلى دورتها العادية إذا بقي الفراغ الرئاسي هو المسيطر على الجو العام.
ومع هذه الاستحالة في تحقيق أي خرق رئاسي محتمل تعود جميع القوى السياسية إلى “متاريسها” غير الطبيعية، وتعود الازمة الرئاسية إلى حال من الدوران في الحلقة المفرغة، في انتظار فرج ما قد لا يأتي إلا من وراء الحدود، حيث تتوجه الأنظار من جديد إلى ما يمكن أن يصدر من مبادرات قد تلجأ إليها مجموعة الدول الخمس، التي يعّوَل عليها الكثير، خصوصًا بعد المواقف الأميركية الأخيرة، وبعد لقاء البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، وبعد التحرّك السعودي الأخير، الذي قام به السفير وليد البخاري، وبعد دخول الفاتيكان بقوة على خطّ الاتصالات الدولية والمحلية.
وبهذه الحركة يمكن القول إن التفتيش عن مرشح ثالث غير فرنجية وازعور قد أصبح واجب الوجوب، خصوصًا إذا كان لدى فريقي “المعارضة” و”الممانعة” النية الصافية في الوصول إلى الخواتيم، التي تكون حتمًا المدخل الطبيعي لبداية خروج لبنان من العنق الطويل لزجاجة الأزمة، التي لا يمكن أن تدوم على الوتيرة التي هي عليها حاليًا.
فهل يمكن القول إن انتخاب رئيس جديد للجمهورية لا يزال يرابض في دائرة المآزق الأكثر حراجة بعدما بلغت حدة المواجهة بين “الثنائي الشيعي” و”الثلاثي المسيحي” مرحلة “العضّ على الأصابع”، خصوصًا أن هذه المواجهة بدأت تأخذ أشكالًا تتخطّى بعمقها وجوهرها المسألة الرئاسية لتصل إلى حدود التلويح بميثاقية الانتخاب، مع ما لها من ظواهر طائفية مَرَضية.