فيما تراوح الأزمة السياسية مكانها، في ظلّ “تمترس” كلّ طرف في مواقعه، ورفض تقديم “التنازلات”، وتحوّل العملية “الديمقراطية” المفترضة لانتخاب رئيس للجمهورية إلى “سابع المستحيلات”، مع إمساك المعسكرَين المتخاصمَين بسلاح النصاب “التعطيلي”، يكاد الجميع يقتنع بالحوار سبيلاً وحيدًا للحلّ، ولو بعد حين، وهي قناعة تشمل حتى أولئك الذين “عطّلوا” المساعي الحوارية سابقًا، ولو لاذ بعضهم بـ”العناد” حتى الآن.
لكنّ القناعة، وإن كانت “كنزًا لا يفنى” كما تقول العبارة الشهيرة والمتداولة، لا تكفي من أجل الانتقال إلى خطوات ملموسة، لأنّ طريق الحوار لا تزال “مسدودة” على أكثر من مستوى، ليس فقط بسبب الشروط والشروط المضادة التي باتت معروفة، ولكن أيضًا بسبب “عقدتين” طرأتا على الخط، ترتبط الأولى بهوية “المبادِر” إلى تنظيم مثل هذا الحوار في الظرف الثاني، فيما تخصّ الثانية “الأجندة” التي لا تبدو “موحّدة” بين الجميع.
وإذا كان هناك من يميّز أيضًا بين نوعين من الحوار، “داخلي” قد لا تكون حظوظه مرتفعة، وآخر “خارجي”، أو بالحدّ الأدنى يحظى برعاية أحد “أصدقاء لبنان”، فإنّ علامات استفهام بالجملة تُطرَح ربطًا بالعقدتين السابقتين: هل من “متطوّع” يتصدّى لمهمّة “رعاية” الحوار وإدارته، داخليًا أو خارجيًا؟ وبأيّ جدول أعمال يمكن أن يلتئم الحوار؟ وهل يمكن حصره بـ”انتخاب الرئيس”، أم يتعدّاه لما هو أبعد وأعمق؟!
“المبادِر”
قد يعتقد البعض أنّ هوية “المبادِر” ليست “عقدة” في طريق الحوار، إذ ليس خافيًا على أحد أنّه متى اتفق الجميع على “منطق” الحوار، يصبح مثل هذا الأمر تفصيلاً لا يحتاج للكثير من العناء، بيْد أنّ المدقّق في الشؤون الداخلية يشعر أنّ مثل هذا الأمر قد يشكّل بالفعل “عقدة”، في ظلّ غياب أيّ “متطوّع” في الداخل والخارج، مستعدّ لـ”مغامرة” من هذا النوع، قد تنقلب سلبًا عليه، أو قد تُحسَب “فشلاً” له في حال لم ينجح في تحقيق “الخرق” المرجوّ منه.
فعلى مستوى الداخل، يبدو أنّ أيّ “عرّاب” للحوار لم يُعثَر عليه، بعدما وجد “العرّاب الدائم للحوار”، الرئيس نبيه برّي، الذي جرّب المبادرة مرّتين قبل وصول الأزمة إلى ذروتها، فأجهِضت محاولته، أنّه أضحى “طرفًا” مع تبنّيه ترشيح رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، وبالتالي فإنّه ليس جاهزًا لتنظيم أو إدارة أيّ حوار، على أن “يتمثّل” فيه، على مستوى المشاركة، من أحد أعضاء كتلته النيابية، متى تلقّى الدعوة للمشاركة.
وفي حين تحدّث البعض عن مساع لـ”إسناد” مثل هذا الدور للبطريرك الماروني بشارة الراعي، بوصفه المرجعية الدينية الأولى، والقادر على “المَوْنة” على مختلف الفرقاء، تشير المعطيات إلى أنّ الأخير لا يحبّذ ذلك، وهو لا يعتبر أنّ هذا “دوره”، فضلاً عن أنّ تجربته مع “محاولة جمع” النواب المسيحيين لا تشجّعه على المضيّ قدمًا في مسعاه، وهو الذي حوّل فكرة “الحوار المسيحي” إلى مجرد “لقاء روحي وصلاة”، تفاديًا للفشل.
“الأجندة”
يقود ما تقدّم إلى انطباع بأنّ الحوار الداخلي صعب، ما لم يتمّ “تحصينه” بحاضنة إقليمية أو دولية، إن جاز التعبير، لكن هنا أيضًا، ثمّة إشكال يرتبط بما إذا كان هناك من جهة خارجية راغبة في الوقت الحالي برعاية مثل هذا الحوار، أو تكرار تجارب الدوحة وسان كلو مثلاً، والتي لم يُكتَب لها النجاح الحقيقيّ على المدى الطويل، علمًا أنّ باريس مثلاً تحدّثت عن “تسهيل” الحوار، ولم تُبدِ الرغبة بأن تكون المبادرة للدعوة إليه.
لكن، إذا حُلّت هذه “العقدة”، وتمّ الاتفاق على حوار داخلي خارجي، بصيغة ما، يتحدّث البعض عن “إشكال” آخر يرتبط بـ”الأجندة” المفترضة لهذا الحوار، ففيما يريد فريق محدّد مثلاً أن يكون محصورًا بالاستحقاق الرئاسي، وبالتالي مركّزًا على هوية الرئيس الذي يمكن أن يجمع بين الفريقين المتخاصمين، يصرّ آخرون على ضرورة “توسيع” البحث، ليشمل “البرنامج والمشروع” الذي يتيح لأيّ رئيس، أيًا كان اسمه، أن يحكم فعلاً.
وبالحديث عن “الأجندة”، ثمّة من يصرّ على وجوب أن يشمل الحوار القضايا الجدلية الكبرى، من الاستراتيجية الدفاعية إلى السلاح، لتثبيت “سيادية” الرئيس العتيد، وثمّة من يخشى أن يتحوّل الحوار، بجدول أعمال فضفاض، إلى ما يشبه المؤتمر التأسيسي، الذي كان “حزب الله” أول من دعا إليه قبل سنوات، وذلك قبل أن يتحوّل إلى “فزاعة” استثارت النعرات الطائفية والمذهبية في أكثر من مكان، وبشكل غير مفهوم في بعض الأحيان.
هي العقدة إياها. الجميع مقتنع بأنّ الحوار والتفاهم ضرورة لإنجاز الاستحقاق الرئاسي ومواجهة التحديات الداهمة، وأنّ التصلّب والاستفزاز لن يفضي إلى مكان، بل سيزيد التعقيد تعقيدًا. لكنّ أحدًا ليس جاهزًا للتصدّي لـ”المغامرة” الحواريّة، حيث “الشياطين تكمن في التفاصيل”، إن جاز التعبير، “شياطين” قد يكون على اللبنانيين العمل معًا لمواجهتها، وإجهاض مخططاتها، حفظًا للوطن والناس!