حين يضرب القدر معنا نحن سكان لبنان موعداً “طائشاً”، تكون فرص نجاتنا ضئيلة جداً. فبينما أرخت ذكرى انفجار الرابع من آب المروّع بظلالها أمس، تقبع طفلة منذ يوم الأربعاء في المستشفى ومصيرها معلّق بين الحياة والموت، ذنبها أنها كانت تعيش طفولتها البريئة فيما كان البعض يحتفل بنتائج الإمتحانات الثانوية. القصة المقرفة هي حكاية “ابريق الزيت” عينها: رصاصة طائشة أطلقت ابتهاجاً بالنجاح، سمّرت نايا على فراش المستشفى.
” كأن الرصاصة اللي فاتت قعدت حدّ قلبو، فقعتلي قلبي عليه”. أذكر جيداً الخوف الذي تملّكني حين أخبرتني جارتنا عن حزنها الدائم على ابنها الذي قتلته رصاصة طائشة خلال الأيام السوداء المعروفة بـ”الأحداث”، حين كان السلاح موجوداً كالتراب، ومتفلّتاً بين أيدي الكبار والصغار.
كان طفلاً يلعب على الشرفة بينما كان الجميع يرتشف القهوة بعد غذاء يوم الأحد. لم يسمعوا له صوتاً، فجأة رأوه ممداً على الأرض، وجسده الصغير مغطّس بالدم. مات برصاصة طائشة وخبيثة.
هذه الحادثة القديمة- الجديدة، ليست الأولى في لبنان حيث لا محاسبة، ولن تكون الأخيرة. ففي لعبة الموت هذه، خاسر واحد لا غير، هو البريء الذي يذهب ضحية وجوده في مكان وزمان واحدين مع مجرم مستتر ومريض، ما زال يستخدم السلاح (المرخصّ أو غير المرخّص)، للتعبير عن فرحته، فيقتل أفراداً آخرين . وبالعودة إلى أحدث معاناة من هذا النوع، مأساة نايا الحاج، إبنة السنوات السبع ووحيدة والديها، التي كانت في الـ Colonie داخل مدرسة القلبين الأقدسين – الحدث. سقطت نايا أرضاً فور الحادث، إلا أن صور الأشعّة في المستشفى هي ما كشف حقيقة وضعها الصعب طبياً: رصاصة اخترقت الدماغ ولا إمكانية لاستئصالها. بدلاً من أن تكون نايا اليوم تعيش بشكل طبيعي، حكم عليها بعض الجهلاء بأن تقضي أجمل أيام طفولتها في غيبوبة من الدرجة الرابعة، وأن تحتاج إلى أعجوبة كي تستفيق منها وكي تخرج من حالتها الخطرة.
رئيس بلدية الحدث جورج عون أكد أن الوضع الصحي للطفلة نايا حنا التي أصابتها رصاصة طائشة أول من أمس، صعب طبياً وهي في حالة حرجة وخطرة، وقال: “ننتظر عجيبة من السماء لتستعيد الطفلة البريئة وعيها وعافيتها”. وقال: “طلبت من كهنة رعايا الحدت تقديم الذبيحة الإلهية بدءاً من اليوم وحتى الأحد على نية نايا الموجودة اليوم في غرفة العناية الفائقة في مستشفى قلب يسوع، وأدعو كل مؤمن للصلاة من أجل عافية نايا”.
وفي حين أن هذه الطفلة البريئة هي الآن سجينة أجهزة التنفس في العناية الفائقة، لا يزال مطلق النار عليها حراً طليقاً، حتى إن اسمه مجهول، لأن المشكلة الأساسية هي عجز السلطات عن ضبط ظاهرة السلاح المتفلت المنتشر بين أيدي مدنيين غير مؤهلين لحيازته، والأسوأ أنه لم يعد مرتبطاً بمناسبة سعيدة أو حزينة. إلا أن المشكلة الأكبر هي سقوط أي هيبة للقوانين التي يسنّها المشرّعون، في محاولة ولو شكلية منهم، لوضع حدود لهكذا ارتكابات عنفية تعرّض مدنيين بريئين للخطر. إذ كان مجلس النواب قد أقرّ القانون الرقم 71/2016، الذي يجرّم إطلاق الأعيرة النارية في الهواء، والذي يعاقب من يقوم بذلك بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات، فيما تصل العقوبة إلى الأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات ولا تتجاوز 15 سنة، وبغرامة من 20 إلى 25 ضعف الحد الأدنى للأجور (ما بين 13.5 مليون ليرة و16.8 مليون ليرة) إذا أدى إطلاق النار إلى الموت.
عشرات الضحايا ومئات الجرحى سقطوا منذ اقرار هذا القانون، في أكبر دليل فاضح على أن لا رادع أمام الإجرام في بلد كلبنان. والأهمّ، أن الضحايا في حال نجوا، لا يجدون أمامهم أي سبيل لتعويض حقوقهم نفسياً وجسدياً ومادياً، بسبب صعوبة تحديد هوية مطلق النار في أغلب الأحيان. وضع حدّ للسلاح المتسيّب الذي علّق نايا بين الحياة والموت، هو الحلّ الوحيد والعادل لوقف مسلسل الإجرام ونبع الدّم الذي لا ينضب بسبب الجهل والمرض والعجرفة بحيازة السلاح، وكأن الأمر “عنترية”. ومع بزوغ كلّ فجر جديد، يبقى السؤال المفروض علينا: كيف ستقتل الضحية المقبلة؟