أمام هول ما يحصل في الداخل الفلسطيني، وما يمكن أن تؤول إليه التطورات المتسارعة، عسكريًا وسياسيًا، تبدو المشاكل السياسية التي يعاني منها لبنان صغيرة.
وقياسًا إلى هذه التطورات، التي يمكن أن تعيد رسم خارطة المنطقة من جديد، لم تعد الأولويات اللبنانية متقدمة على غيرها من الأولويات، وإن كانت من حيث المبدأ تعني الكثير للبنانيين، الذين يهمهم أن يكون بلدهم من بين البلدان، التي ينعم أهلها بالاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي، من دون أن يعني ذلك أنهم غير معنيين بما يحصل من تطورات على الساحة الفلسطينية، خصوصًا أن لها ارتباطات مباشرة بالساحة اللبنانية، أقّله بالنسبة إلى اعتبار أن إسرائيل هي عدوة لبنان والعرب، وأن مخططاتها في الجنوب لم تعد مجرد تكهنات، بل هي اليوم أكثر واقعية من أي وقت مضى.
فموقف لبنان الرسمي من إسرائيل معروف، ولا يختلف لبنانيان على اعتبارها محتلة وغاصبة للأرض وللحقوق.
إلا أن هذا الواقع لا يعني أن ثمة اجماعًا لبنانيًا على تحويل الساحة اللبنانية جسر عبور لمخططات خارجية.
فاللبنانيون يتضامنون مع انتفاضة فلسطين إلى أقصى حدود التضامن، وهم يؤيدون ويدعمون ما قامت به المقاومة الفلسطينية من بطولات لم تشهد الساحة الفلسطينية مثيلًا لها.
ولكنهم يختلفون في بينهم حول مسألة جوهرية، وهي أن إمكانات لبنان وظروفه لا تسمح له بتكرار تجربة الـ 2006، مع ما تركته من مآسٍ وويلات على مختلف الأصعدة.
فلبنان، في رأي البعض، ليس أفضل حال من كثير من الدول العربية، وهو على استعداد لأن يحذو حذوها في أي قرار قد تتخذه لمساندة الفلسطينيين في مقاومتهم غير المسبوقة، وفي مدّهم بكل الوسائل لتمكينهم من الصمود.
ولكن وضع لبنان، في نظر “القوى الممانعة” يختلف عن غيره من الدول العربية، من حيث الحدود المشتركة بينه وبين فلسطين المحتلة، فضلًا عن أن المقاومة في الجنوب تعمل منذ فترة طويلة على “توحيد ساحات المواجهة مع العدو”.
وانطلاقًا من هذ القناعة لدى فئة واسعة من اللبنانيين كان الهجوم المحدود بالصواريخ على مواقع في منطقة مزارع شبعا المحتلة، وهي موقع الرادار وموقع زبدين وموقع رويسات العلم.
فـ “حزب الله” أراد بهذه الخطوة أن يوصل رسائل للإسرائيليين أولًا، ولقيادة “حماس” ثانيًا. أراد أن يقول في رسائله للإسرائيلي إنه موجود ومستعدّ لكل الاحتمالات.
أما “حماس” فهي تعرف موقف الحزب، الذي يمدّها بكل وسائل الدعم اللوجستي والميداني، ولكنها تعرف أكثر أن ليس في قدرته أن يفعل أكثر مما فعل ضد مواقع العدو في مزارع شبعا المحتلة، لأنه لا يريد أن يعطي العدو ذريعة لتنفيذ ما يتمناه، وهو إعادة لبنان إلى “العصر الحجري”، وإن كانت “حماس” تريد أكثر من ذلك، لأنها تعتقد أن “طوفان الأقصى” إن لم يشمل باقي الساحات، وبالأخص الساحة اللبنانية، يبقى مفعوله محصورًا في مكانه، على رغم أهميته وموقعه الاستراتيجي في المعادلات القائمة، التي اهتزّت بفعل الضربات الموجعة، التي تلقتها إسرائيل.
أمّا ردّ العدو على الهجوم الذي نفذّه “حزب الله” على مواقعه فجاء أيضًا محدودًا. وهذا يدل، كما يراه بعض الخبراء في الشأن العسكري، أن لا نيّة لدى الطرفين بتوسيع نطاق التوتر، إلاّ إذا كان المقصود توريط لبنان بما لا قدرة له عليه، خصوصًا أن إمكاناته المعروفة هي أكثر من متواضعة.
فللتضامن مع ما يقوم به المقاومون الفلسطينيون أوجه كثيرة. ويمكن أن يكون التعبير عن هذا التضامن بوسائل مختلفة، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا التضامن بفتح جبهة الجنوب. وهذا ما يدركه “حزب الله” جيدًا.
وهو يعرف كيف يختار المكان والزمان المناسبين لأي عمل قد يقدم عليه. هذا ما فعله في السابق. وهذا ما سيفعله اليوم. هو لن يعطي العدو ذريعة لشنّ حرب واسعة ضد لبنان كله، وليس ضد الجنوب فقط.
فله حسابات لبنانية تختلف عن حسابات “حماس”الفلسطينية، وإن كانا معًا في معركة واحدة، قلبًا وقالبًا.